أدب

ابن دريد شاعرُ العلماء

سبتمبر 1, 2024

ابن دريد شاعرُ العلماء


هو الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزديُّ، المولود في البصرة عام 223ه. جده دريد هو من أزد عمان، لكنه نزح إلى العراق وأقام بالبصرة، وولد له فيها ابناه الحسن والحسين. الحسن هو أبو صاحبنا، لكنه توفي وتركه صغيرا، لذلك عاش ابن دريد في كنف عمه الحسين.


بدأ ابن دريد تحصيل العلوم في صغره، فدرس على أبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وعبد الرحمنِ بن عبد الله الذي هو ابن أخي الأصمعي ومن أضبط الناس في الأصمعي، لذلك تجد ابن دريد كثير الرواية عن الأصمعي.


تنقل ابن كثيرا في حياته متعلما ومعلما، فعاش طفولته وشبابه بالبصرة، لكنه نزح عنها إلى عمان قبيل سيطرة الزنج على البصرة في ثورتهم المعروفة عام 255ه، وهي ثورة استمرت خمس عشرة سنة.


أقام بعد ذلك ابن دريد في عمان بين بني عمه من الأزد يُعلّم ويتعلم، إلى أن قرر العودة مرة أخرى إلى البصرة عام 270 هـ بعد قضاء الدولة العباسية على ثورة الزنج. عندما عاد إلى البصرة مكث يُدرّس الناس فيها 25 عاما، فذاعت شهرته خلال تلك الفترة وجعل الناس يتوافدون عليه من كل مكان.


بعد ذلك ذهب ابن دريد إلى الأهواز حيث دعاه أميرها عبد الله بنُ مِيكَال، لتدريس ابنه إسماعيل وتأديبه. فمكث ابن دريد في الأهواز ست سنين يدرس إسماعيل بن عبد الله بن ميكال، وإسماعيل ذلك سيكون فيما بعد من الأئمة والأعلام. صنف ابن دريد في الأهواز معجمه الشهير جمهرة اللغة، وأملاه على تلميذه إسماعيل ابن ميكال.


عاد ابن دريد من فارس إلى البصرة عام 301ه، ومكث يدرس بالبصرة سبعة أعوام، ثم غادر إلى بغداد بعد ذلك وظل ببغداد يدرس ويتتلمذ عليه الخلق ويتوافد، إلى أن توفي بها سنة 321 ه وقد قارب المائة من عمره.


أبو بكر ابن دريد هو من أكثر العلماء تأثيرا في تاريخ اللغة العربية، بسبب مؤلفاته الغنية، وشعره الغني الذي بلغ الآفاق، وتعدد أسفاره واختلاطه بالناس، وأيضا بسبب تلامذته العظام الذين تخرجوا على يديه وأثروا في الناس من بعده، كالأصفهاني صاحب الأغاني، والمسعودي صاحب مروج الذهب، وابن خالويه صاحب المختصر، والمَرزُباني صاحب معجم الشعراء وغيرِه من المؤلفات النافعة، وأبي علي القالي صاحب الأمالي.


أبو علي القالي بالذات، حين تقرأ كتابه الأمالي، تجد كثيرا من مروياته إنما رواها عن أبي بكر بن دريد، فقد أثر فيه تأثيرا بالغا. بل إن عبد الله الصاوي في تحقيقه لشرح مقصورة بن دريد قال إن القالي له في الأمالي خمسة شيوخ كلهم يكنى أبا بكر، وإنه إذا ذكر أحدهم لابد أن يذكر معه اسمَ أبيه، لكنه إذا ذكر أبا بكر مجردا فإنه إنما يعني ابن دريد لا غيرَه وذلك لقربه من ابن دريد وتأثره به.


ابن دريد ليس عالما مصنفا فحسب بل شاعر فحل أيضا، ويلقبه البعض بعالم الشعراء وشاعر العلماء. ومن أشهر شعره مقصورته التي بلغت 250 بيتا والتي أولها:


يا ظَبيَةً أَشبَه شَيءٍ بِالمَها – تَرعى الخُزامى بَينَ أَشجارِ النَقا

إِمّا تَرَي رَأسِيَ حاكي لَونُهُ – طُرَّةَ صُبحٍ تَحتَ أَذيالِ الدُجى

وَاِشتَعَلَ المُبيَضُّ في مُسوَدِّهِ مِثلَ اِشتِعالِ النارِ في جَزلِ الغَضى


وسبب شهرة هذه المقصورة هو وفرة الحكم والأمثال وأخبار العرب فيها وغناها بالمصطلحات الكثيرة، لذلك صنف كثير من اللغويين في شرح هذه المقصورة، فقد شرحها التبريزي وحقق شرحه لها فخر الدين قباوة، شرحها أيضا بن خالويه، شرحها السِّيرافي، شرحها الجواليقي، شرحها المهلبي، وغيرهم من الأئمة واللغويين، وشرحها أيضا بعض المعاصرين.


ومن عجيب قدرة ابن دريد على الشعر أنه هو الذي ابتدع “ذواتِ القوافي”، وهي نوع من القصائد تكون له أكثر من قافية، ومن ذلك قوله:


سدِكتْ يمينُكَ بالأعنة والأسنــــــــــــة والمناصل فالأعادي عنك زورُ

فكأنما يلقى المَساعِرُ منك في – رهج القنابل والردى فيه يسورُ

ليثا بعثر لا يروع ولا يصُـــــــد عن الجحافل حين ينخزل الجسورُ


فهذه الأبيات رويها الراء، لكن إذا حذفتَ الجزء الأخير من كل بيت ستحصل على أبيات أخرى من روي مختلف، فتصبح الأبيات:


سدِكتْ يمينُكَ بالأعنة والأسنة والمناصلْ

فكأنما يلقى المَساعِرُ منك في رهج القنابلْ

ليثا بعثر لا يروع ولا يصُـد عن الجحافلْ


فهي قدرة فائقة على التصرف في الشعر وقد قلد فيها الشعراء ابن دريد ومن أشهر من قلده فيها الإمام أبو محمد الحريري، حيث يقول:


يا طالب الدنيا الدنية إنها – شرك الردى وقرارة الأقذار

دار متى ما أضحكت في يومها – أبكت غدا تبا لها من دار


فإذا حذفت الجزء الأخير من كلا البيتين سيصبح البيتان:


يا طالب الدنيا الدنـــــــــــــية إنها شَرَك الردى

دار متى ما أضحكت – في يومها أبكت غدا


لم يخل شباب ابن دريد من مشاغبة، فعندما كان يزعجه بعض الخصوم كان يعرض بهم ويستعرض عضلاته في اللغة ويمتحنهم بالألغاز والأسئلة وغريب اللغة. فمن ذلك امتحانه لأبي العلاء الباهلي في قصيدة فيها الكثير من غريب اللغة، قوله:


وما الصَّهصلِقُ الدِّفنس – والكهكاهة الأخرق

وما البيذارة العيزار ذو الألس وذو الأولق

وما البوهُ على الجلهة إن هيجته وقوق

وما الدُّهدن والدَّهداهُ والهِلقامة الهِدلِق


الصهصلق هي المرأة كثيرة الصخب، والدفنس هي الحمقاء، والكهكاهة هو الرجل الغليظ. والبيذارة هو الرجل المبذر لماله، والعيزار هو سيئ الخلق، وذو الألس هو الخائن المدلس، وذو الأولق هو المجنون. والبوه هو طائر، والجلهة هي ما استقبلك من الوادي، ووقوق الطائر إذا صوت. أما الدهدن فهو الباطل، وأما الدهداه فهي صغار الإبل، وأما الهلقامة فهو الرجل الأكول، والهدِلق هو كبير الشفتين. وهي قصيدة طويلة يتحدى فيها ابن دريد الباهلي هذا ويسأله أسئلة كثيرة.


مؤلفات ابن دريد هي مؤلفات عظيمة الفائدة، منها الجمهرة، والمقصورة القصيدة التي شرحها كثير من أهل اللغة، ومن مؤلفاته أيضا المقصور والممدود، وهو أيضا مصنف مشهور وله شروح عدة. من مصنفاته أيضا المطر والسحاب، والسَّرج واللجام، وغريب القرآن وغير ذلك من المصنفات النافعة.


ومما رثي به ابنُ دريد قول جَحْظَة البَرمكي:


فقَدتُّ بابن دريد كل فائدةٍ – لما غدا ثالث الأحجار والتُّرَبِ

وكنت أبكي لفقد الجود منفردا – فصرت أبكي لفقد الجود والأدبِ

 

عشتم طويلا..



شارك