أدب

حامي الظعينة” ربيعةُ بن مُكَدَّم

أغسطس 11, 2024

حامي الظعينة” ربيعةُ بن مُكَدَّم

ربيعة بن مكدم هو أحد مشاهير الجاهليين، وهو من بني فَراس، الذين هم فرع من فروع كنانة، الجمجمة المضرية المعروفة (في مضر أربع جماجم: كنانة وتميم وغطفان وهوازن).

يقال عن ربيعة هذا إنه يحمي الظعائن حيا وميتا، وذلك أنه يومَ طَعَنَه رجل من سُليْم في قتالٍ بين الحيين، عرف ربيعة أنه سيموت من تلك الطعنة، فركب فرسه وأوقفه، يريد أن يُشعر عدوه أنه حي يقاتل، وذلك كي لا تُسبى النساء، فركبت النساء ونجون، كل ذلك وربيعة ميتٌ فوق فرسه، فجعلت العرب تقول: “ربيعة بن مُكدّم يحمي الظعينة حيا وميتا”.

(الظعينة هي المرأة التي في الهودج، فإن لم تكن في هودج لم تُسَمَّ ظعينة كما هو معروف عند أهل المعاجم). كانت تلك القصة عن حمايته للظعينة ميتا، فما قصة حمايته لها حيا؟

ذلك أن دريد بن الصمة الجُشَمِي، ركب في فرسان من جُشم يريدون الغارة على بني كنانة. فلما صاروا في وادٍ لبني كنانة يقال له الأخرم، رأوا في ناحية الوادي رجلا معه ظعينة، وكان ذلك الرجل صاحبنا ربيعة بن مكدم، وكانت الظعينة التي معه زوجته ريطة بنت جِذل الطعان. فأرسل دريد إليه فارسا وقال له: قل لذلك الرجل أن يترك الظعينة وينجو بنفسه. فلما أتى الفارس ربيعةَ، صاح به: “اترك الظعينة وانج بنفسك”، فصرف ربيعة راحلة الظعينة نحو الفارس ليوهمه باستسلامه وجعل يقول للظعينة:

سيري على رسلك سير الآمنِ – سيْرَ رَداحٍ ذاتِ جأش ساكنِ

إن انثنائي دون قِرني شائني – ابلي بلاء واخبري وعايني

(الرداح هي المرأة العَجْزاء التامة الخَلق).

ثم حمل ربيعة على الفارس وقتله، وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة.

بعث دريد بن الصمة فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فوجد صاحبه صريعا، وحينئذ هجم على ربيعة ليقتله، فانصرف إليه ربيعة وهو يقول:

خلِّ سبيل الحرة المنيعه – إنك لاق دونها ربيعَهْ

في كفه خِطِّيّة مطيعه – أو لا فخذها طعنة سريعَهْ

والطعن مني في الوغى شريعهْ

(الخِطِّية أو الخَطِّية هي الرمح، والرماح الخطية هي نسبة إلى الخط وهو مرفأ في البحرين كانت تأتي منه تلك الرماح).

ثم طعن ربيعة ذلك الفارس أيضا فقتله.

استبطأ دريد الفارسين فأرسل فارسا ثالثا، فوجد صاحبيه قتيلين، فصاح بربيعة أنْ خلِّ الظعينة، فأمر ربيعةُ الظعينة بأن تسير نحو البيوت ورجع للفارس الثالث وهو يقول:

ماذا تريدُ من شتيم عابسِ – أما ترى الفارس بعد الفارسِ

أرداهما عاملُ رمح يابسِ

ثم حمل على الفارس فقتله وانكسر رمحُه.

ظن دريد بن الصمة أن الفرسان الثلاثة قتلوا ربيعة واستفردوا بالظعينة، فخرج إليهم فوجدهم قتلى، ثم انطلق إلى ربيعة وقال له: “أيها الفارس إن مثلك لا يقتل، ولا أرى عندك رمحا، والخيلُ ثائرة بأصحابها، فخذ رمحي هذا، فإني منصرف عنك إلى أصحابي فمثبطُهم دونك”. ثم رجع دريد وقال لأصحابه: “إن فارس الظعينة قتل أصحابكم وسلبني رمحي فلا مطمع لكم فيه”، فانصرف القوم، فقال دريد في تلك الحادثة:

ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله – حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتلِ
أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةً – ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل
مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه – مثلَ الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل
يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه – مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل
وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه – مثلَ البَغاث خَشِينَ وَقْعَ الأجْدلِ
يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه – يا صاح مَن يَكُ مثلَه لم يُجهلِ

 ثم قال ربيعة بن مكدم أيضا في هذه الحادثة:

إن كان يَنفعُكِ اليقينُ فسائلِي – عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم
إذ هِي لأوَّلِ مَن أتاها نُهبة – لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم
إذ قال لي أدنى الفوارس مِيتةً – خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَمِ
فصرفتُ راحلة الظَّعينة نحوَه – عمداً ليعلَم بعضَ ما لم يَعلم
وهتكتُ بالرُّمح الطَّويل إهابه – فَهَوى صريعاً لليَدين وللفَمَ
ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً – نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَمِ
ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ – وأبى الفِرارَ ليَ الغداة تَكرُّمي

دارت الأيام بعد هذه القصة، وأغار مرةً بنو كنانة -رهطُ ربيعة-، (وذلك بعد موت ربيعة)، أغاروا على بني جشم رهط دريد بن الصمة، وأسروا دريدا، أسره المخارق الكناني، فلما عادوا بالأسر أقبلت نساء بني كنانة يرين الأسرى، وكانت فيهن ريطة بنت جذل الطعان (الظعينة التي حماها ربيعة)، فلما رأتْ دريدا عرفته، وقالت لقومها: “هلكتم وأهلكتم، هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة” ثم ألقت عليه ثوبها وقالت: “يا آل فراس أنا جارة له منكم هذا صاحبنا يوم الوادي أعطانا رمحه ورد عنا أصحابه”. فسألوه من هو فقال أنا دريد بن الصمة، ثم سألهم عن حامي الظعينة من هو فقالوا: “هو ربيعة بن مكدم وقد قتله بنو سليم وهذه امرأته ريطة”، ثم جعلت ريطة هذه تقول، تحثُّ قومها على إخلاء سبيل دريد:

سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة – وكل فتى يُجزَى بما كان قَدِّما

 فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه – وإن كان شراً كان شراً مذمَّما

سنجزيه نُعمى لم تكن بصغيرة – بإعطائه الرمح السديد المقوّما
فقد أدركتْ كفاه فينا جزاءَه – وأهلٌ بأن يُجزَى الذي كان أنعما
فلا تكفُروه حق نُعماه فيكمُ – ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فلو كان حياً لم يضق بثوابه – ذراعاً غنياً كان أو كان معدِما
ففُكوا دريداً من إسار مُخارق – ولا تجعلوا البؤسَى إلى الشر سُلَّما

فقرروا حينئذ أن يطلقوا سراح دريد، وكسته ريطة هذه وجهزته ولحق بقومه فلم يزل كافّا عن غزو كنانة حتى مات.

عشتم طويلا.

 

شارك