أدب

مِن الخوف إلى الحرّية.. رحلة عفاف محفوظ مِن الصعيد إلى ما وراء المحيط

مِن الخوف إلى الحرّية.. رحلة عفاف محفوظ مِن الصعيد إلى ما وراء المحيط


السيرة الذاتية بين الصدق والفضائح

أكتب هذا المقال بدافع هجاء أسئلة المذيعين في البرامج التليفزيونية حينما يكررون أسماء مذكرات قديمة باعتبارها أمثلة على الكشف وتعرية الذات، مثل سيرة محمد شكري «الخبز الحافي»، أو مذكّرات نوال السعداوي. أرى أنَّ هذا التكرار كسل معرفيّ وضَعف في التحضير. يوجد خلط في البحث عن الصدق الفني في السِّيَر الذاتية والبحث عن عورات النفس ومثالب الذات والنميمة وفضائح العلاقات. إذا أردت سيرة فضائحية تعتني بإيراد بحث كاتبها عن العلاقات والركض خلف النساء فهذا مثاله سيرة نقيب الصحفيين اللبنانيين إسكندر رياشي في كتابه «نسوان لبنان». والرياشي مترجم ومغامر وسياسي وزير نساء، وصَفه أنس الحاج بقوله: «طرافته أنه يتعرى بالكامل، ويتحداك أن تجاريه».


مِن الخوف إلى الحرية

على الجانب الآخَر مِن سِيَر الفضائح التي يحسب القراء أنها هي النوع المميز في عالم السِّيَر والمذكّرات، ثمة سِيَر كَتَبها نساء مثلًا تشعُّ بالصدق والصراحة ولا تخلو من اعترافات في شؤون الحياة والسياسة، لكنَّ أصحابها لم يكونوا مغامرين ولم يغرقوا في البحث عن الملذات أو المجاهرة بالبوح الخاص. أمسكتُ مِن رف الكتب سيرةً بعنوان «مِن الخوف إلى الحرية.. رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط».

تمتَّعتُ بهذه السيرة، فقد تميَّزَت بالصراحة إلى درجة الاعترافات، ونرى في خلفية السيرة حكاية تطوُّر المجتمع المصري وأسئلته الاجتماعية وحالته السياسية من ثلاثينيات القرن العشرين إلى أيامنا هذه، مع تحرير جميل وكتابة مميزة من خالد منصور.

أعجبتني رحلة الكاتب خالد منصور الذي حرَّر المذكّرات ودوَّنها، وكيف حوَّل الحكايات والنقاش وسماع رواية عفاف محفوظ إلى سيرة ذاتية. أخَذ هذا العمل منه سنتين كما حكى في الكتاب، وقال لنا: «أتعشم أن أكون نجحت»، وأقول له: لقد نجحت فعلًا في نقل سيرة سيِّدة من المجتمع المصري ورحلتها الذاتية وظلال أحداث التاريخ من كامب ديفيد حتى 11 سبتمبر إلينا.

تتردد الكاتبة في تسجيل قصة حياتها في بداية الكتاب. قلق نرصده دائمًا في كتب السِّيَر، لأنَّ الحديث عن الأنا تبجُّح ومباهاة واعتراف ضمنيٌّ بأهمية قصّتنا. تقول: «‫لا أعرف هل تستحقُّ حياتي أن أكتب عنها كتابًا أم لا. حياتي عادية، فلماذا أكتب عنها كتابًا؟ بل وأقوم بهذا بعد أن تعدَّيت عامي الثمانين، وفي وقت أشعر فيه أحيانًا أنني ضيَّعت عديدًا من هذه السنوات! في تلك الأيام التي تناوشني فيها أحاسيس اللاجدوى، ويحدق بي الموت، وأشعر كأنّ حياتي تبعثرت وأنّ ولعي بالحرية والاستقلال حرماني سويًّا من الاندماج الفعلي في أيّ دور اجتماعيّ محدد. تراودني هذه الأفكار أحيانًا ثم تتبخر».


طفولة مصرية في مدرسة الراهبات

حكت الدكتورة هبة رؤوف عزت تفاصيل حياتها في مدرسة الراهبات، في بودكاست نظر، وكيف تفاعلت مع هذه التجربة في طفولتها، وصراعها مع المؤسسة بخصوص الحجاب. تبدو مسألة تجارب الأطفال مع مدارس الراهبات قصةً لم تُروَ على نحو كامل. أُعجبت عفاف بالراهبات جدًّا، بل وأحبَّت في فترةٍ ما أن تكون راهبة. وذات يوم قالت لجدّتها زينب: «أنا عايزة اكون راهبة»، فردَّت الجدّة بهدوء: «مش ح ينفع عشان انتِ مسلمة». كانت جدّتها الوحيدة التي تتحاور معها، فيما يريد الباقون لها مجرد الصمت. «اخرسي يا عفاف»، تحذير سمعتْه كاتبتُنا كثيرًا مِن أُمّها وأبيها وغيرهما من الكبار.

في طفولة عفاف محفوظ قرأتْ روايات الهلال وهي تقترب من العاشرة من العمر. واجهت صعوبة آنذاك في فَهْم عبقريات عباس محمود العقاد، ولكنها أحبَّت طه حسين، ربما لأنه مثلها مِن المنيا. وقرأت لباحثة البادية، ملك حفني ناصف، ثم عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ. وزاد شغفها بالقراءة فتعاقدت خلسة مع مورِّد الصحف لمنزلها، فصار يترك لها مجلات ومطبوعات عربية وفرنسية كل يوم في الصباح، تقرؤها ثم تردّها إليه في نهاية اليوم مقابل مبلغٍ أسبوعيٍّ تقتطعه من مصروفها. وصارت تقرأ مجلات «آخر ساعة» و«المصور» ومطبوعات فرنسية رومانسية.

ومِن الكتب التي تأثرت بها آنذاك «زينب بطلة كربلاء» بلون غلافه الأخضر وقصّته عن التضحية والبطولة والفداء، فيما لم تعجبها شخصية القدّيسة جان دارك رغم أنها لعبَت دورًا في مسرحية عنها في المدرسة.

وكانت تقضي وقتًا أطول فأطول مع الكتب، وبسبب هذه القراءات بما فيها الصحف انتبهت إلى مسائل السياسة منذ مراهقتها المبكرة، بدايةً من الاحتلال الإنجليزي لبلادنا، وكيف أنَّ مصر تعاني من الفقر والجهل والتخلُّف مقارنة بدول أخرى، فحلمت في طفولتها بالسفر، وظل هذا أكبر أمنياتها، أن تسافر كثيرًا. وعندما سألت مدرسة اللغة الفرنسية، مدام فاروچيا، الطالبات في الفصل عن أحلامهن، قالت عفاف: «أريد أن أسافر حول العالم». ردَّت المعلِّمة باستهزاء: «يجب أن تكوني مليونيرة لتقومي بهذا». وفي كل سفرية قامت بها عفاف في حياتها لسنوات طويلة ردَّدَت في سِرِّها: «لم أصبح مليونيرة، ولكني وصلت حتى هنا، يا مدام فاروچيا».


‏انتحار مسيو سيبويه

تصحبنا عفاف في سيرتها حول أهمّ مراحل حياتها، وتحكي عن تحسُّن لغتها العربية مع الدروس الخصوصية التي تولّاها مدرّس معروف في المنيا، فيما راوغها إتقان النحو كثيرًا. وتذكُر لنا ضحكات أستاذ الشريعة في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، محمد مصطفى شلبي، ترنّ في أُذنها بسبب أخطائها. قال لها مرة إنَّ «سيبويه سينتحر» لو سمعها، فدهشت عفاف وردَّت عليه: «أنا لم أفعل شيئًا لمسيو بوسويه!»، فضحك وعرَّفني مَن عالِمُ النحو الأشهَر في القرن الثامن الميلادي، عمرو بن عثمان المعروف بلقب سيبويه.

كانت عفاف مولعة بالحساب والهندسة والجبر، وشجّعها معلّم الرياضيات الأستاذ الجريدلي كثيرًا وقال لها إنها أذكى مِن معظم الطلبة الذين مرُّوا عليه في حياته، خصوصًا طالب يُدعى عبد الحكيم عامر، كان الأستاذ دائمًا يصفه بـ«الغبي». لم تُقابِل عفاف الطالب الغبي عامر، الذي صار بعد سنوات قليلة الحاكم الناهي في المؤسسة العسكرية المصرية، ولكنها لم تدهش كثيرًا بعد أن تكشَّف دوره المؤلم في الهزيمة الفاجعة التي هزَّت كلّ مصريّ ومصرية في 1967.

لم يكُن غبيًّا في الرياضيات فقط، بل أيضًا -كما اتضح في ما بعدُ للأسف الشديد- في كل ما له علاقة بالحساب والتقدير في العمل العسكري، وإن كان كما يبدو مِن كُتب تلك المرحلة ذكيًّا في إدارة العلاقات الإنسانية والسياسية والصعود إلى قمّة السلطة والبقاء هناك حتى الموت.



عفاف في مؤسسة «الأهرام»

تولَّى جميل مطر نفس منصب السيدة عفاف محفوظ حين غادرت «الأهرام». تُقدِّم عفاف في مذكّراتها صورة نقدية لجريدة «الأهرام» مختلفة عن حالة التبجيل وهالة المدح التي قدّمَها مطر في مذكّراته التي صدرت مؤخرًا بعنوان «حكايتي مع الصحافة». ليته سمّاها «حكايتي مع هيكل».

«الأهرام» كانت إحدى أهمّ محطّات هيكل في 31 يوليو 1957 عندما أصبح رئيسًا لتحرير «الأهرام»، وكان يومها أصغر مَن تَولَّى رئاسة «الأهرام» سنًّا على مدى تاريخها الطويل. تقول عفاف في مذكّراتها التي حررها خالد منصور: «التقيتُ مع هيكل في حضور بطرس غالي، وعرَض علَيَّ أن أعمل معهما في مشروع مركز دراسات حول قضية فلسطين والصهيونية. وقلت لهيكل: ’ولكن الصحف والمجلات التي نحتاج إليها للعمل ممنوعة، ولا يمكن أن نعرف ما يجري في بقية العالم وكيف تفكر الدول والمجتمعات الأخرى‘. فطمأنني أنه سيحصل لنا على كل الصحف والمجلات التي نحتاج إليها، وأنني سأكون كبيرة الباحثين. ولكنّ رئيسي سيكون حاتم صادق، زوج ابنة الرئيس عبد الناصر والمتخرج حديثًا في الجامعة». انتهى المقتطف.

وهنا نقطة مهمة عن «الأهرام» وجوِّها من مذكّرات عفاف محفوظ: «كانت عربة القهوة والشاي تمرُّ في نحو الساعة العاشرة صباحًا وفي أوقات أخرى محددة في ممرات ’الأهرام‘ وتقف عند باب كل مكتب، وداخل المكاتب كانت طاولات قهوة وأرائك صغيرة للجلوس.

حلم هيكل أن تصبح ’الأهرام‘ مثل صحيفة ’نيويورك تايمز‘، ولكنها أصبحت جزيرةً غنيةً برجوازيةً في وسط محيط من الأحياء الشعبية الفقيرة. لم يُرِدْ هيكل في الحقيقة صحيفة مستقلة، بل أراد، كما حدث بالفعل، أن يكون المستشار الأول للرئيس وصانع السياسات الأهمّ، في الخفاء، وأن تخدم الصحيفة المشروع السياسي الطَّموح لهذا الزعيم… وتركتُ ’الأهرام‘ بمشاعر مختلطة، لم يكُن الحزن بينها، واحتفظتُ ببعض الصداقات التي وُلِدَت هناك».

انتهى حديث عفاف محفوظ. ومِن نقدها الذي تذكره في مذكراتها أيضًا عن تجربتها في «الأهرام»، أن يكون الشابّ حاتم صادق محدود الخبرة مديرها في المركز. وكان حاتم زوج ابنة الرئيس عبد الناصر، المتخرج حديثًا في الجامعة. تعرَّفت عفاف إلى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمد سيد أحمد وأحمد بهاء الدين في «الأهرام».

تقول: «كان توفيق الحكيم ألطفهم آنذاك، وسمح لنفسه، ربما لأنه أكبر مني بأربعين عامًا، أن يغازلني متفكهًا في أول لقاء لنا، إذ نظر إليَّ وقال: ’ما كنتش أعرف إن الستات الحلوين بيعملوا دراسات‘. وبعدها زارني يوسف إدريس في مكتبي ودعاني على الغداء في مطعم ’الأهرام‘».

تستمر المذكرات في وصف حياة البطلة عفاف محفوظ. ولفَت نظري ردُّها على بطرس غالي عندما دعاها إلى الانضمام إلى الوزارة، إذ تقول: ‏”وفي أواخر السبعينيات اتصل بي بطرس غالي، وكان وزير دولة للشؤون الخارجية، وفاتحني في دخول الحكومة وزيرةً للإعلام! لم أفكّر كثيرًا قبل أن أرفض، علَّق بطرس بسخرية ومرارة قائلًا: ’انتم اليساريين كده، تنتقدوا وتنتقدوا، بس لما نقول لكم تعالوا ترفضوا‘. أخبرته ساعتها أنني سأقبل وزارة الإعلام التي يعرضونها علَيَّ لكني أريد طرد كل كبار المسؤولين عن العلاقات الخارجية. كنت أعرفهم جميعًا بالاسم، وأعرف مدى فسادهم في أثناء عملي مستشارة ثقافية في الولايات المتحدة. ولم يتصل بي مرة أخرى».

عادت عفاف إلى القاهرة وإلى عملها في الجامعة بعد توقيع إعلان مبادئ كامب ديفيد للسلام في 1978 بأسابيع عدة. تجاهلَت عروضًا للانتقال للعمل في وزارة الخارجية لأنها لم ترتَح لطريقة تعاملهم مع القضايا، خصوصًا تلك التي تهمُّها، وحتى تعامل بعضهم مع بعض.

تُلَخِّص تجربتها في وزارة الخارجية بقولها: «يعمل الدبلوماسي للدفاع عن مصالح النظام لا مصالح الشعب. ولأنَّ مصالح النظام في بلادنا أضيَق كثيرًا من مصالح غالبية الناس، لم أكُن مستعدة للعب هذا الدور. وعلى الصعيد الشخصي كان المبدأ السائد في السلك الدبلوماسي هو تبادل المنافع تحت شعار ’شيِّلني واشيِّلك‘، ولم أرتَح لهذا النوع من الحياة. لم يناسبني قَطّ».


جزع المرض عند صاحبٍ خارجَ المكان

توقَّفتُ عند هذه اللقطة التي رَوَتْها: «بعد إصابة إدوارد سعيد بسرطان الدم، طلبَت منّي صديقة عزيزة أن أتوسط لديه من أجل حل مشكلةٍ ما. اتصلتُ به بعد تردُّد، كان غاضبًا من الدنيا ولم يُرِدْ أن يصغي إليَّ، وعاملني -رغم صداقتنا- بشكل مهين وجارح، فطلبت منه أن يتوقف وقلت: ’بس بس يا إدوار، كفاية‘. وأنهيت المكالمة وأنا موزَّعة بين الاستياء منه والإشفاق عليه. هناك من يتعاملون مع أمراض الموت بطريقة كريمة ورأس مرفوع، وهناك من يعجزون عن هذا ويسيطر عليهم شعور الغضب الشديد، خصوصًا لو كانت لديهم درجة عالية من الغرور أو الشعور المفرط بالذات، كما هي الحال مع إدوارد سعيد، وبين هذين القطبين عديد من درجات الطيف».

وفي الكتاب تفاصيل عن رحلتها مع التحليل النفسي، عن تحوُّلاتها الفكرية، عن تحوُّلات النساء مع السلطة التي تُغيِّرهُنَّ رغم أنهنَّ يبدأْنَ الطريق بحثًا عن حقوق النساء ثم يتحوَّلْنَ إلى مُتمسِّكات بالمناصب. تقول عفاف محفوظ إنَّ الدكتورة فرخندة حسن كانت واعدة للغاية حتى سكنت واستكانت في دهاليز السلطة فتغيرت. قالت لها عفاف مَرَّة: «اتغيَّرتِ كتير من ساعة ما بقيتِ رئيسة المجلس القومي للمرأة». ولم تَرُدّ عليها فرخندة!


هذا المقال دعوة لقراءة هذه السيرة، وأعتقد أنَّ مَن أُعجبوا بكتاب إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» سيجدون في هذه السيرة متعة وفائدة وقدرة على الاستبطان الذاتي للمشاعر، لسيدةٍ وُلِدَت في المنيا في مصر وبلغت الثمانين في الولايات المتحدة، وتحكي قصَّتها وما شاهدته في الرحلة من الخوف إلى الحرية، وهي سيرة صريحة فيها أسرار يخجل الواحد من البوح بها إلا لطبيبه النفسي.

شارك

مقالات ذات صلة