أدب

ثورة 1919 وألاعيب الذاكرة

ثورة 1919 وألاعيب الذاكرة

مرت مئة عام ونيف على ثورة 1919، حدث من أهمّ أحداث الأمة المصرية، نرى حضوره الهامّ في المذكرات الشخصية لهذا الجيل وتستحضره السينما وفنون الأدب، بين يدي كتاب مميز بعنوان «ثورة 1919 في الأدب والسينما» للكاتبة دينا حشمت عن دار الشروق. وعندما بدأت قراءة الكتاب رأيتني أركض بين صفحاته من جمال عرضه وأُنهِيه سريعًا، وأنا أشعر أنني تناولت عملًا أكاديميًّا ناضجًا مميزًا. لقد درست الكاتبة نحو 15 عملًا أدبيًّا تتنوع بين الرواية والمسرح والسينما والمذكرات، كلها تتناول حدث ثورة 1919. كتاب مهمّ بمقدمة من الناقد رشيد العناني، ولكن لم أرَ نقاشًا نقديًّا يتناول الكتاب ويهضم أهم الأفكار التي طرحتها الكاتبة.

تنجح دينا حشمت في العودة إلى حدث ثورة 1919، وهي لا تؤرخ للثورة، بل تبحث عن المسكوت عنه وكذلك تفاعل السلطة في عهودها المختلفة حول الحدث الكبير ثورة 1919. سأُجمِل عديدًا من الملاحظات المهمة التي تذكرها الكاتبة في نصها. لقد أصبحت المظاهرات التي اندلعت في ربيع 1919، عندما نفَت الإدارة البريطانية الزعيم الوطني سعد زغلول، بمنزلة دلالة على 1919، وقد أدى ذلك إلى إخفاء النضالات المتنوعة والمعقدة الكامنة وراء تلك اللحظة.

هذا الكتاب هو لقاء مع قصص ثورة 1919 كما تتكشف في الروايات، والقصص القصيرة، والمذكرات، والمسرحيات، والأفلام، والمسلسلات الدرامية… تنقد الكاتبة تلك السرديات وكيفية استقبالها، والأهمّ من ذلك أن الكتاب يسلّط الضوء على عمليات التذكُّر والنسيان التي ساهمت في تشكيل ما تسميه المخيِّلة المُهيمِنة حول 1919، التي صاغتها النخب السياسية والثقافية المتعاقبة. ويتمثل جدال دينا الرئيسي في هذا الكتاب في أن الأدب والسينما مارسا «سياسة المحو» ولعبا دورًا رئيسيًّا في تشكيل هذه المخيلة المُهيمِنة حول ثورة 1919.

«الذاكرة ملكة مستبدَّة تتذكر وتنسى على غير قانون ثابت» كما يقول عباس محمود العقاد، ومن هذا المنطلق تستكشف دينا حشمت السردية التاريخية التي صمتت عن تناول الإضرابات، والاعتصامات، والمظاهرات العفوية في الشوارع في الثورة، فضلًا عن أعمال التخريب والعنف المُخطَّط لها بعناية.


ست سنوات من الاضطراب الثوري (1918-1923)

من الملاحظات المهمة في الكتاب أن الذين شاركوا في كتابة مروية عن ثورة 1919 هم «الأفندية»، وقد أدَّى ذلك إلى غياب ذكر دور الفلاحين في ثورة 1919. تنقل دينا حشمت أسف بيتر جران لأن «مقاربات جميع المؤرخين تقريبًا تتناول مصر من زاوية فكرة المركز، ويفعلون ذلك وفقًا لنموذج الاستبداد الشرقي». ويوضح أنه وفقًا لهذا النموذج، يُعَدّ الريف والمدن الإقليمية بمنزلة المناطق التي تستمرّ فيها الحياة التقليدية المُبسَّطة بثبات، وعلى الرغم من وجود شهادات عن إعداد مُنسَّق لسلسلة من المظاهرات السلمية في حال إلقاء القبض على سعد زغلول، فإن الاحتجاجات التي اندلعت في ربيع عام 1919 كانت أكثر من كونها مظاهرات محدودة.

لم يتقيد الناس بتعليمات الوفد، أي تنظيم مظاهرات سلمية «لتكون صورة للحضارة»؛ هاجم الفلاحون محطات السكك الحديدية ودمَّروها، وقطعوا الطرق وخطوط السكك الحديدية والتلغراف، ونهبوا مخازن الحبوب، وهاجموا الجنود والضباط البريطانيين وقتلوهم.

دُمِّر أكثر من 100 قرية، وأُحرِقت 63 محطة للسكك الحديدية، وتضررت خطوط السكك الحديدية نفسها في أكثر من 200 موقع، وبحسب الرافعي، فقد 3000 فلاح حياتهم خلال الثورة، أما القبائل البدوية فتقدمت نحو محافظتَي البحيرة والفيوم واحتلتهما في اليوم التالي، واشتبكت يوم 17 مارس في معارك مع القوات البريطانية في دمنهور/البحيرة ومدينة الفيوم.

لا يعني بالضرورة تمرُّد الفلاحين، بعنف، أنه كان بناءً على مبادرة من النخبة القاهرية، ولا للاحتجاج أساسًا على نفي سعد زغلول، بل لأسباب تتعلق باستيلاء البريطانيين على الماشية والحبوب، وتتعلق أيضًا بالتجنيد القسري خلال الحرب العالمية الأولى. يرى راينهارد شولتز في كتابه «تمرد الفلاحين المصريين 1919» أن انتفاضات الفلاحين في عام 1919 كانت في الواقع تَمرُّدًا واسع النطاق ضدّ إعادة الهيكلة الاقتصادية لمزارع القطن التي لعبت فيها الدولة المصرية دورًا مركزيًّا، وهكذا كانت جذور معظم أعمال الشغب في الريف ترتبط بالقمع اليومي الذي واجهه الفلاحون.

لم تقتصر ممارسة العنف على الفلاحين في ثورة 1919، أو هبَّة من العمال، بل كان العنف بالأحرى، بما في ذلك الاغتيالات والهجمات على المسؤولين البريطانيين، والشخصيات المصرية رفيعة المستوى المتعاونة مع السلطات البريطانية، جزءًا من استراتيجية الحركة الوطنية، فقد كان للوفد جهاز سرّي بقيادة عبد الرحمن فهمي، وهو رجل ذو خلفية عسكرية، وإلى جانب الاغتيالات نسَّق هذا الجهاز المظاهرات وموَّل شبكة كبيرة من المخبرين، بل في بعض الأحيان كان أفراد الشرطة المصرية يشجعون على العنف الثوري، بل ويمارسونه، حتى إن بعضهم رفض الانصياع لأوامر قمع الثورة، ويذكر كتاب حشمت ثلاث حالات موثَّقة لمأموري شرطة استقالوا من مناصبهم، أو هاجموا رئيسهم، أو سلّموا أسلحة للثوار وانضمُّوا إليهم.


مصر بين ثورتين (1919-1952)

الأمر الثاني أنه مع قيام ثورة يوليو 1952، اعتبر نظام يوليو ثورة 1919 مقدمة لمساره الثوري والنضالي، بحيث تصبح ثورة يوليو التتويج الناجح، ليس لثورة 1919 الفاشلة فحسب، بل أيضًا لمئة وخمسين عامًا من السعي الثوري المُضنِي، وتمثلت إحدى نتائج ذلك في أن شخصية «سعد زغلول» ذهبت إلى غياهب النسيان مع ثورة 1952، خصوصًا أنه قبل ثورة الضباط في مصر، خضعت ثورة 1919 للتفسير السياسي الذي طرحه حزب الوفد وأتباعه، فقد ساد اتجاهان رئيسيان في الأدب التأريخي الصادر بين عامَي 1920 و1946، هما: عدم الاهتمام شبه الكامل بكل من حركة عرابي وانتفاضة 1919، والميل إلى التركيز على أفعال الوفد وزعيمه سعد زغلول. وتتجسد ببراعة هذه الشخصنة للسياسة في الإبراز المستمرّ لكل من سعد زغلول وزوجته صفية زغلول.


مصطفى أمين وإعادة الاعتبار لثورة 1919

تعود الكاتبة دينا حشمت لدراسة حياة مصطفى أمين باعتبارها نموذجًا من إعادة قراءة ثورة 1919، وكيف عبّر عنها البعض في مذكراتهم وسيرهم الذاتية، عندما نشر مصطفى أمين (1914-1997) كتابه «من واحد لعشرة» عام 1977، كانت قد مضت ثلاث سنوات على خروجه من السجن، وكان أمين صحفيًّا يتمتع بنفوذ، وأحد مرتادي الدائرة القريبة من عبد الناصر، لكنه رأى فجأة عالَمَه ينهار عندما اقتحم الحراس المسلحون فيلته في الإسكندرية يوم 21 يوليو 1965. وأدانته محكمة عسكرية بتهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة، ولم يطلق الرئيس أنور السادات سراحه إلا في عام 1974، بعد تدخلات من المطربة المشهورة أم كلثوم ووزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.

بَيْد أن أول ما أصدره مصطفى أمين بعد إطلاق سراحه، إلى جانب «مذكراته في السجن»، كان كتابًا يجمع وثائق تخصّ سعد زغلول لم تكن معروفة للجمهور حتى تلك الفترة. صدر الكتاب تحت عنوان «أسرار ثورة 1919»، ووصفها كثورة لعب فيها العنف الشعبي والمنظم دورًا رئيسيًّا. وناقش في الكتاب الدور الذي لعبته منظمة الوفد السرية في هذا العنف، إذ تولَّت تنسيق المظاهرات، وتمويل شبكة واسعة من المُخبرين، واغتيال عدد كبير من الجنود والضباط البريطانيين، بالإضافة إلى شنّ هجمات على شخصيات مصرية رفيعة المستوى تتعاون مع السلطات الاستعمارية.

وتشير الكاتبة دينا حشمت إلى أن مصطفى أمين أصبح مُولَعًا بميراث جده اللامع سعد زغلول. كانت رتيبة، والدة أمين، هي ابنة شقيقة سعد، وتَبنَّاها سعد وصفية بعد وفاة والديها. يوضح مصطفى أمين في مقدمته لكتاب «أسرار ثورة 1919»، أن الكتاب كان من المقرر صدوره في أوائل الستينيات. مع ذلك، وعلى الرغم من أن أجزاءً منه نُشرت مُسلسَلة في أخبار اليوم، فقد صدر الأمر «فجأة» بحظر النشر عام 1963.

وفي حين استأذن أمين من عبد الناصر نفسه، فقد أبلغه الرئيس جمال عبد الناصر أنه «تَلقَّى تقارير من الأجهزة [الاستخباراتية] المختلفة» تُحذِّر من أن «الغرض من هذا التحقيق الطويل هو التقليل من قيمة ثورة 23 يوليو»، و«إثبات أن في قدرة هذا الشعب الأعزل أن يثور على الجيش المسلَّح»، و«تحريض الشعب على الانقضاض على الثورة».

وهكذا كانت تلك الفترة في عهد السادات مواتية لإعادة النظر في الخطاب الناصري حول 1919 والتشكيك في صمت أمين عن التحدث عن شخصية سعد زغلول، الذي مر بفترة من النسيان بعد 1952، وتُعَدّ سرديته محاولة واعية لرد الاعتبار لشخصية زغلول الكاريزمية في النقاش العامّ.

إن المذكرات، مثلها مثل جميع سرديات السير الذاتية، هي إعادة بناء للحظات الماضي وأحداثه، ولا تُشكل بالضرورة ذكريات مُخلِصة للواقع؛ يتجاهل مصطفى أمين في حديثه عن سعد زغلول أنه شغل منصب وزير التعليم عام 1907 تحت الحكم الاستعماري، على اعتبار أن ذلك يشكِّل جزءًا من استراتيجيته بعيدة النظر لمحاربة الاحتلال البريطاني، وكذلك يتجاهل الحقائق المعروفة عن سعد زغلول التي يتحدث عنها هو نفسه على نطاق واسع في يومياته، مثل إدمانه لعب القمار، فلا يلمح إليها الراوي مصطفى أمين.

ما كتبه مصطفى أمين يقدم تَصوُّرًا يجعل الثورة لا تدور حول سلسلة من مظاهرات القاهريين السلمية، ولا يحتلّ تعبير الوحدة الوطنية المجازي مساحة كبيرة في سرد الكتاب. يزعزع كتاب «من واحد لعشرة»، مثله مثل كتاب «أسرار ثورة 1919، التمثيلات المُهيمِنة عن ثورة 1919 وقائدها.

ففي مقابل الوحدة الوطنية، تُهيمِن الفوضى والصراع والكرنفالية على السردية، وفي مقابل الباشا الذي قاد الثورة بطريقة مسالمة تمامًا، يظهر سعد زغلول بوصفه العقل المركزي لمنظمة الوفد السرية، بيد أن كتاب «من واحد لعشرة» هو نَصّ مكتوب بعد ما يقرب من ستين عامًا على الأحداث، ويُعيد تناولها في سياق سنوات ما بعد عبد الناصر. وبالتالي، فهي تردّ الاعتبار لسعد زغلول رمزًا للنضال ضدّ الاستعمار، وتوثّق في الوقت نفسه الثورة بدقة لمواجهة حقيقة أنه «بعد خمسين سنة من ثورة 1919 لم يكُن قد أطلِق اسم واحد من شهداء ثورة 1919 على حارة أو شارع في أي قرية في مصر».


تحفر دينا حشمت في الأعمال الأدبية والتاريخية والسينما مثل فيلم «بين القصرين»، وترى الثغرات في سرد التاريخ المتعلق بثورة 1919، مثل اعتبار أعمال العنف من أعمال الغوغاء من الناس كما كتب بعض الأفندية، أو تجاهل دور الفلاحين والعمال أو الصمت عن نضال النساء، أو تأليه شخصية سعد زغلول، أو تجاهل ثورة يوليو تفاصيل نضال الشعب في ثورة 19، حتى سردية الوحدة الوطنية تنقضها الكاتبة بتذكُّر العنف بين المصريين والأرمن، أو حذف ذكر اليهود من كلمات أغنية لسيد درويش. كل هذا يجعلنا نتأمل كيف تعاملت الفنون مع التاريخ وتذكرته وتجاهلت بعض عناصره.

 

شارك

مقالات ذات صلة