أدب
حين يؤلف عالم النحو كتابا، ويسهب في تبيين الإعراب وأحكام الكلام، يستشهد على كل حكم بشاهد من كلام العرب، فالشاهد هو الدليل الذي يُستشهد به على حكم في النحو. وهذا الشاهد إما أن يكون بيتا من الشعر الجاهلي، وهو الشعر الذي سبق الإسلام كشعر امرئ القيس وطرفة، أو يكون بيتا لشاعر مخضرم وهو الشاعر الذي أدرك الجاهلية والإسلام كلبيد وحسانَ بنِ ثابت، أو يكون بيتا لشاعر إسلامي وهو الشاعر الذي عاش في صدر الإسلام كجرير والفرزدق وغيرهما، وأما الطبقة الرابعة التي أتت بعد هذه الطبقات الثلاث مباشرة يُختلف في الاستشهاد بشعرها، وهي طبقة بشار بن برد وأبي نواس وأضرابهما، بعض العلماء يستشهد بشعر هذه الطبقة، وبعضهم لا يستشهد، مع أن أبا نواس وبشارا كانا شاعرين عربيين على السليقة، وكانا لا يخطئان في اللغة، وكثير من عزوف بعض اللغويين عن شعرهما في الاستشهاد، إنما هو عصبية وليس حكما فنّيًّا.
يستهشد النحوي إذن في كتابه، بشواهد شعرية تؤيد ما ذهب إليه من أحكام، فحينئذ يجتمع من استشهاداته تلك ما يسمى بـ”ـالشواهد”. هذه الشواهد عُني أهل اللغة بشرحها وجمعها وتنظيمها واستخراجها من كتب النحاة واللغويين. فكل عالم صنف كتابا في النحو وربما في غيره يأتي من الجيل الذي بعده عالم يأخذ كتاب العالم الذي سبقه ويجمع كل ما فيه من شواهد ويشرحها.
كتاب سيبويه –مثلا- استُخرجت شواهده وشرحت، وجُمعت شواهد الأعلم الشنتّمري في كتابه التحصيل وشُرحت، وجُمِعتْ شواهد ابن هشام الأنصاري من مختلِف مصنفاته وشُرِحت، وجُمِعت شواهد ابن عقيل شواهده في شرح الألفية وشُرحت، وجُمعت شواهد الأشموني في شرح الألفية وشُرحت، وجمعت شواهد البغدادي في خزانته وشُرحت، وكذلك الحال مع شواهد الأنباري في الإنصاف، إلى غير ذلك من كتب النحاة التي استخرجت منها الشواهد وشرحت.
ومن المتأخرين من حاول جمع الشواهد من كتب النحو كاللغوي الفلسطيني محمد شُرّاب رحمه الله، وهو صاحب كتاب “شرح الشواهد الشعرية في أُمّاتِ الكتب النحوية”، حيث جمع في موسوعته تلك 4000 شاهد شعري من مختلف كتب المتقدمين من النحاة.
سأحدثك في هذا المقال قليلا عن كتاب واحد وهو “مغني اللبيب عن شعر الأعاريب” لابن هشام الأنصاري (ت 761 ه). والكتاب هو بتحقيق المخضرمين مازن المبارك وزميله محمد علي حمد الله.
المغني هذا، انطوى على أكثر من 1200 شاهد من أشعار العرب. وقد شرح شواهده أكثر من علم، ومن أرفع من شرح شواهد المغني الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911 ه) في كتابه شرح شواهد المغني الذي نشر مصحوبا بتعليقات شيخ العربية محمد محمود ولد التلاميد الشنقيطي رحمه الله، وقد نشرتِ الكتاب لجنةُ التراث العربي عام 1966 بتحقيق أحمد ظافر كوجان.
السيوطي كان رائق الشرح فريده، فيأخذ الشاهد الذي استشهد به ابن هشام ويشرحه، ويترجم لصاحبه ويأتيك بالقطعة الشعرية التي تضمنت الشاهد ويشرح ما أشكل من ألفاظها، وربما أتى بالقصيدة كلها إن لم تكن طويلة.
أول شواهد بن هشام في كتابه كان في مقدمة الكتاب، وهو قول الفرزدق:
إذا قيل أي الناس شرٌّ قبيلة – أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ
هو يهجو جريرا ورهطه بني كليب، فجرير والفرزدق كلاهما تميمي، لكن جريرا من بني كليب أما الفرزدق فهو دارمي. ومحل الشاهد في هذا البيت هو قوله أشارت كليبٍ، فحذف حرف الجر، هو يريد أن يقول أشارت إلى كليب بالأكف الأصابع فقال أشارت كليبٍ. والبيت هو من قصيدته التي يقول فيها:
ومنا الذي أعطى الرسول عطية – أسارى تميم والعيون دوامع
ومنا الذي يعطي المئين ويشتري العوالي ويعلو فضلُه من يدافع
إلى أن يقول أولئك آبائي فجئني بمثلهم – إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
من شواهد بن هشام التي أوردها في باب المفردات قول امرئ القيس في معلقته:
أفاطمُ مهلا بعض هذا التدلل – وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي
والشاهد فيه استعمال الهمزة في النداء للقريب، ففاطمُ منادى، ويجوز فيها فاطمُ على لغة من لا ينتظر الحرف وفاطمَ على لغة الانتظار، وهذا يسمى الترخيم، أي أن تحذف آخر الاسم في المنادى تخفيفا كأن تقول عثمُ في ندائك لعثمان أو عائشُ في ندائك لعائشة. فالشاهد في قول امرئ القيس هنا هو استعمال الهمزة التي هي حرف النداء للمنادى القريب.
من شواهد همزة الاستفهام التي أتى بها ابن هشام قول عمر بن أبي ربيعة:
بدا لي منها مِعصَم حين جَمَّرت – وكفٌ خضيب زينت ببنانِ
فو الله ما أدري وإن كنت داريا – بسبع رمين الجمر أم بثمان
هو يتغزل بعائشة بنت طلحة بن عبيد الله أثناء رميها الجمرات، وذلك في أبيات يقول منها:
لقد عرضت لي بالمحصَّب من منى – مع الحج شمس سترت بيمانِ
إلى أن يقول:
فلما التقينا بالثنية سلّمت – ونازعني البغل اللعين عِناني
فعجنا فعاجت ساعة فتكلمت – فظلت لها العينان تبتدران.
بالنسبة لبيته هذا:
فو الله ما أدري وإن كنت داريا – بسبع رمين الجمر أم بثمان
الشاهد فيها حذف همزة الاستفهام، هو يريد أن يقول أبسبع رمين الجمر أم بثمان فقال بسبع أم بثمان.
ومثله قول الكميت:
طربتُ وماشوقا إلى البيض أطربُ – ولا لعبا مني وذو الشيبِ يلعبُ؟
قصده أوَ ذو الشيبِ يلعبُ؟ فحذف الهمزة قال وذو الشيب يلعب.
ومثاله في القرآن قوله تعالى في قصة إبراهيم: “فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي” أي أهذا ربي على سبيل الاستنكار.
من شواهد ابن هشام أيضا قول تميم بن رافع المخزومي:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا – ونحن بوادي عبد شمس وهاشمِ
وهذا البيت من ألغاز النحو، يتبارى به الطلاب عادة ويمتحن به بعضهم بعضا.
فالمعروف أن لما إذا اختصت بالماضي تطلبت فعلين، كأن تقول لما أتيتني أكرمتك. أو لما خرجتُ لقيتك، وهنا في هذا البيت نجد لما سقاؤنا لا نرى معها أي فعل، فهي تتطلب فعلين لذلك البيت يحتاج إلى إعادة ترتيب كي يُفهم، فأنت إذا فكّكت الكلمة الأخيرة حللت اللغز، “وَهاشم” هذه الكلمة ليست كلمة واحدة وإنما هما كلمتان: “وَهَى” كلمة وَ “شِمِ” كلمة فوهى فعل ماضٍ معناه سقطَ، وشم فعل أمر من شامَ أي التمس، فيصير معنى البيت أقول لعبد الله لما وهى سِقاؤنا بوادي عبد شمس شِمِ أي أقول لعبد الله لما سقط سقاؤنا بوادي عبد شمس التمس سقاءنا، وإذا فهمت المعنى تيسر لك الإعراب.
كانت هذه مختارات من شواهد ابن هشام، ولولا خشية الإطالة لزدتك.