سياسة
طالما كانت علاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط مليئة بالتوتر والتعقيد، خاصة فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، قامت إدارة جورج بوش بغزو العراق بناءً على مزاعم كاذبة بأن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل يعتزم استخدامها ضد الولايات المتحدة، وأن نظامه قدم دعماً لأسامة بن لادن.
وعندما تبين زيف الادعاءات بشأن أسلحة الدمار الشامل، سارعت إدارة بوش إلى تبرير الغزو بحجة أخرى: نشر الديمقراطية. في أفغانستان؛ بدأت المهمة كحملة لملاحقة أسامة بن لادن وإزالة نظام الطالبان من السلطة. ولكن لاحقًا تحولت الذريعة لاستمرار وجود القوات الأمريكية هناك إلى قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم حقوق النساء الأفغانيات.
كانت إشكالية تركيز إدارة بوش على الديمقراطية وحقوق الإنسان تكمن في أن تصرفاتها ذاتها تضمنت بعضًا من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها دولة غربية في التاريخ الحديث. وبعد نشر صور صادمة تُظهر سوء معاملة السجناء في سجون أبو غريب بالعراق وغوانتانامو في كوبا، وجدت إدارة بوش نفسها في مأزق يصعب فيه تبرير كيف يمكنها الدفاع عن حقوق الإنسان وهي تنتهكها بنفسها.
وقد استخلصت الإدارات الأمريكية اللاحقة درسين أساسيين من فترة بوش: الأول هو أن على أمريكا الابتعاد عن سياسة تغيير الأنظمة، والثاني هو أن تكون أكثر حذراً في حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج، خاصة مع دعمها لحكومات تنتهك المبادئ التي تعلنها أمريكا أو التسامح معها. ومن هنا نشأ نقاش في واشنطن حول التوتر القائم بين المصالح والقيم المعلنة الأمريكية، وكيفية إيجاد توازن بينهما.
كان للرئيس أوباما سجل متباين فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط. دعمت إدارته العملية العسكرية لإزالة النظام الليبي الذي قادتها منظمة الناتو بسبب “المسؤولية في حماية” الشعب الليبي من أفعال القذافي ضدهم ومع ذلك اختار أوباما عدم فعل الشيء نفسه في سوريا، حيث أدى قمع الرئيس بشار الأسد للمتظاهرين خلال الربيع العربي إلى حرب وحشية ومقتل أو نزوح جزء كبير من السكان السوريين. حاول إغلاق غوانتانامو، واصفًا إياه بأنه “يتعارض مع قيمنا” و”يقوض مكانتنا في العالم”، لكن جهوده لإغلاق مركز الاحتجاز باءت بالفشل بسبب المعارضة الشديدة في الكونغرس لنقل بعض السجناء إلى الولايات المتحدة للمحاكمة أو السجن.
أما الرئيس ترامب، فلم يُظهر اهتماماً كبيراً إما بالديمقراطية أو حقوق الإنسان خلال فترة ولايته الأولى. وقد أوضح أن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، حتى أنه ذهب إلى حد الإشادة بطاغية كوريا الشمالية كيم يونغ أون، والتحدث عن من هو “ديكتاتوريه المفضل”!
وضع الرئيس بايدن الديمقراطية وحقوق الإنسان في صميم حملته الرئاسية، مؤكداً أن الدول لن تحصل على “تصريح مجاني” منه كما فعلت في عهد ترامب. ومع ذلك، اتضح أن سياساته كانت أقرب مما كان متوقعًا لسياسات سلفه، حيث فضل تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان. بل وصل الأمر إلى تقديمه دعمًا غير مشروط لإسرائيل، حتى عندما أقرت وزارة خارجيته بأن بعض وحدات الجيش الإسرائيلي ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان في الضفة الغربية (وذلك قبل بداية الحرب الجارية على غزة).
وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية، سيضطر كلا المرشحين، كامالا هاريس ودونالد ترامب، إلى تحديد مواقفهما بشأن هذا التوازن الحساس بين المصالح والقيم المعلنة الأمريكية. ورغم أننا قد لا نعرف بالضبط مواقفهم في كل قضية، فإن سياساتهم الحالية والسابقة وتصريحاتهم تمنحنا فكرة عما يمكن أن نتوقعه.
شكلت “الحرية” محورًا رئيسيًا في خطب حملة هاريس، رغم أن تركيزها انصب بشكل رئيسي على القضايا المحلية مثل حقوق المرأة الإنجابية والعنف المسلح. أما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فقد دعمت نائبة الرئيس هاريس إلى حد كبير سياسات الرئيس بايدن لكنها أولت اهتمامًا أكبر بقضايا حقوق الإنسان في الصراع العربي الإسرائيلي والحرب الجارية على غزة.
اتخذت هاريس موقفًا أكثر تقدمية من بايدن في المؤتمر الوطني الديمقراطي الأخير، حيث شددت على أهمية سلامة وأمن الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير، بالتوازي مع تأكيد مماثل على الحفاظ على أمن إسرائيل.
على الجانب الآخر، عندما قرر الرئيس بايدن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، دعمت هاريس قرار الرئيس واصفة إياه بأنه”شجاع” و”صائب” بالرغم من توصية كبير مستشاريها، فيل غوردون إلى الإبقاء على عدد محدود من القوات الأمريكية للمساعدة في حماية حقوق المرأة تحت حكم الطالبان ولتفادي أزمة لاجئين.
إذا أصبحت هاريس رئيسة، فمن المرجح أن تتبع نهج أسلافها في تجنب الخوض في نقاشات حول الديمقراطية في الشرق الأوسط، خاصةً أن العديد من دول المنطقة ليست ديمقراطية أو تمثل ديمقراطيات غير ليبرالية. وبناءً على تصريحات مستشارها غوردون السلبية بشأن محاولات تغيير الأنظمة السابقة في المنطقة، من شبه المؤكد أنها ستسعى لتجنب التورط العسكري الأمريكي هناك إلى أقصى حد ممكن.
ومع ذلك، قد تُقنع هاريس بإيلاء اهتمام أكبر لقضايا حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وغيرها من المسائل التي تحظى عادة بالحماية في النظم الديمقراطية. ومن المرجح بشكل خاص أن تركز على قضايا المرأة، كما فعلت فيما يتعلق بقضايا المرأة في الولايات المتحدة، مثل مكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وجرائم الشرف، وحق المرأة في التعليم.
وبالنسبة إلى ترمب فمن الممكن التنبؤ إلى حد كبير بكيفية تعامله مع هذه القضايا إذا أعيد انتخابه. فقد أظهر بوضوح عدم اكتراثه بالديمقراطية أو حقوقالإنسان، مفضلاً العلاقات القائمة على المصالح مع نظرائه. وفي خطاب ألقاه أمام العالم العربي أثناء فترة رئاسته، قال ترامب: “لسنا هنا لإلقاء المحاضرات.. لسنا هنا لنخبر الآخرين كيف يعيشون، أو ماذا يفعلون، أو من يكونون، أو كيف يعبدون.
و حتى عندما واجه ضغوطاً محلية شديدة لاتخاذ إجراءات ضد منتهكي حقوق الإنسان، مثل الانتهاكات ضد مسلمي الروهينجا في ميانمار، تجاهل ترامب قرار الكونغرس شبه بالإجماع الذي وصف هذه الأفعال بالإبادة الجماعية.
ويظهر توجه ترامب نحو حقوق الإنسان بشكل واضح من خلال اختياره لمستشاريه وموظفيه؛ حيث كانت للعديد منهم صلات بمنظمات عنصرية بيضاء ومعادية للإسلام مما يدل على ازدراء عام للقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان. وقد انعكست أفكار هؤلاء الموظفين في سياسات ترامب المناهضة للمسلمين والأقليات الأخرى أو الفئات الضعيفة مثل طالبي اللجوء. في حال فوزه بولاية ثانية، يمكننا أن نتوقع أن يستمر في تعيين المزيد من هؤلاء المستشارين واعتماد نفس النهج في سياساته.
لطالما وجدت الأنظمة الاستبدادية حول العالم نفسها أكثر ارتياحاً مع الإدارات الأمريكية الجمهورية مقارنةً بالديمقراطية، خاصة مع تقديرها لعدم اكتراث ترامب بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع ذلك، ورغم تباين الخطاب بين المرشحين، يمكننا أن نتوقع أن تتشابه توجهاتهما السياسية العامة إلى حد كبير إذ ستتراجع أولويات الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج إلى الخلفية، لتفسح المجال أمام التحديات الداخلية الملحة التي تواجه الأمريكيين.