سياسة
تطرقت مقالة الأسبوع الماضي إلى مواقف المرشحين للرئاسة الأمريكية كامالا هاريس ودونالد ترامب تجاه الصراع في غزة ، بينما يتناول مقال هذا الأسبوع تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية و آراء المرشحين حول قضية النفوذ الإيراني في المنطقة.
لطالما كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران معقدة، وشهدت تقلبات كبيرة في التاريخ الحديث. ففي عام 1953 نجحت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في الإطاحة برئيس وزراء إيران المنتخب ديمقراطياً، محمد مصدق، بعد محاولته تأميم صناعة النفط في إيران.
وبعد الانقلاب، نُصب محمد رضا بهلوي كشاه لإيران بدعم من الأمريكيين والبريطانيين لمدة تقارب ثلاثة عقود، تمتعت الولايات المتحدة وإيران بعلاقات وثيقة، حيث قدم الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون دعماً سخياً للشاه وتعاونوا معه في قضايا التجارة والدفاع، رغم سياساته القمعية في الداخل. لكن هذه العلاقة تغيّرت جذرياً بعد الثورة الإيرانية، عندما أطاح أنصار آية الله الخميني، الذي كان منفياً في باريس في ذلك الوقت، بنظام الشاه.
أحدثت الثورة الإيرانية صدمة في العالم، وتأثرت الولايات المتحدة بشكل خاص عندما اقتحم أنصار الخميني بمباركة منه السفارة الأمريكية في طهران في 4 نوفمبر 1979 واحتجزوا 52 أمريكيًا كرهائن لمدة 444 يومًا. وقطعت الولايات المتحدة وإيران العلاقات الدبلوماسية رسميًا في أبريل 1980، ولم تستأنف العلاقات منذ ذلك الحين.
منذ ذلك الوقت؛ تراوحت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران من التوتر إلى العداء الصريح بعد هجمات 11 سبتمبر “الإرهابية” على الولايات المتحدة، أعلن الرئيس جورج بوش أن إيران جزء من “محور الشر”، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، في محاولة للضغط على النظام الإيراني وفي نفس الوقت أدت محاولات فاشلة للتعامل مع النظام بشأن برنامجه النووي. حاول الرئيس أوباما فتح صفحة جديدة مع إيران، حيث عرض في البداية التعاون بين البلدين، لكنه وجد نفسه في صراع معها بشأن برنامجها النووي ودعمها للرئيس السوري بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية الوحشية.
و في النهاية، مهدت الضغوط التي فرضتها العقوبات الدولية تحت قيادة إدارة الرئيس أوباما الطريق إلى الاتفاق النووي الإيراني، والذي تعرض لانتقادات واسعة من الحزب الجمهوري. عندما تولى ترامب الرئاسة، انسحب بسرعة من الاتفاق واعتمد نهجًا عدائيًا تجاه إيران، بينما سعى الرئيس بايدن إلى اتباع نهج دبلوماسي، رغم أنه لم يعد إلى الاتفاق وواجه تحديات في احتواء الأنشطة الإيرانية في المنطقة.
فيما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة المستقبلية تجاه إيران، تتفق الأحزاب السياسية ومرشحوها على أن النظام الإيراني يمثل خصماً و تهديدًا استراتيجيًا للأمن والاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، يكمن الاختلاف الرئيسي بينهما في الفلسفة السياسية والتكتيكات للتعامل مع هذا التهديد. ترامب معروف بتحديه للمعايير، سواء كانت سياسية أو غير ذلك. فبينما قال إن سبب انسحابه من الاتفاق الإيراني هو أنه كان “صفقة سيئة”، فإن التفسير الأكثر ترجيحاً هو أنه أراد عكس أحد الإنجازات الدبلوماسية الرئيسية للرئيس أوباما.
بغض النظر عن السبب؛ اعتبر بعض المتشددين في النظام الإيراني انسحاب ترامب من الاتفاق النووي نعمة، إذ بدأت إيران في انتهاك التزامها بالاتفاق فور انسحاب الولايات المتحدة، مما شمل زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم إلى ما يتجاوز الحدود المتفق عليها وتوسيع مخزونها من اليورانيوم المخصب. كما قامت إيران بتقليص زيارات مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مواقعها النووية، مما أدى إلى تقليل الشفافية وزيادة المخاوف بشأن إمكانية تطوير إيران أسلحة نووية.
وقد أدى انسحاب ترامب من الإتفاق إلى تقويض الثقة عالمياً في الاتفاقيات الدولية والمفاوضات الدبلوماسية، حيث لاحظت دول أخرى أن أي إدارة مستقبلية قد تتخلى عن اتفاق دولي كبير. وهذا بدوره أدى إلى توتر العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، الذين كانوا يرغبون في الالتزام بالاتفاق. حاولت الدول الأوروبية إنقاذ الاتفاق من خلال جهود دبلوماسية وآليات لتسهيل التجارة مع إيران، لكنها لم تنجح. وإستغدم المتشددون في إيران الانسحاب الأمريكي من الإتفاق كدليل على أن الدبلوماسية لا تجدي نفعًا.
من المرجح أن تواصل إدارة ترامب الجديدة أو حتى تزيد من حدة حملة” الضغط الأقصى ضد إيران. سيشمل ذلك إعادة فرض وتوسيع العقوبات الاقتصادية التي تستهدف قطاع الطاقة الإيراني والقطاع المصرفي والصناعات الرئيسية الأخرى بهدف عزل إيران اقتصاديًا بشكل أكبر. قد تزيد إدارة ترامب من الوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي كوسيلة للردع ضد العدوان الإيراني، وإذا تصاعدت التوترات، فمن المحتمل أن يشن ترامب ضربات عسكرية على المنشآت النووية أو القواعد العسكرية الإيرانية. يمكن أن يؤدي نهج متشدد إلى دورة من الانتقام والتصعيد، خاصة إذا زاد المتشددون في الحكومة الإيرانية من سيطرتهم على البلاد، مما يزيد من خطر نشوب صراع مفتوح بين الولايات المتحدة وإيران، مع تأثير محتمل لزعزعة الاستقرار في المنطقة بأكملها
ومع ذلك، هناك احتمال ضئيل أن يحاول ترامب، بعد فرض ضغوط إضافية على إيران، صياغة صفقة جديدة مع الجمهورية الإسلامية لإثبات أنه أفضل صانع للصفقات.
من ناحية أخرى، من المرجح أن تتعامل إدارة هاريس المستقبلية مع إيران بمزيج من استمرارية سياسات إدارة بايدن والتركيز على قضايا محددة مثل الملف النووي، والاستقرار الإقليمي، وحقوق الإنسان. من المتوقع أن تواصل هاريس الجهود الدبلوماسية التي تشبه نهج إدارة بايدن، مع احتمال السعي إلى اتفاق نووي معدل مع إيران.
سيهدف الاتفاق المحتمل الجديد إلى كبح قدرات إيران النووية مع معالجة المخاوف المتعلقة بالأمن الإقليمي. وقد يشمل ذلك إعادة الانخراط في المفاوضات بهدف الحد من برنامج إيران النووي مع ضمان الامتثال الصارم لعدم انتشار الأسلحة النووية.
ومع ذلك، نظرًا للتحديات الجيوسياسية الحالية وتراجع الثقة بين الولايات المتحدة وإيران، قد يكون من الصعب الوصول إلى مثل هذا الاتفاق مقارنة بالصفقة الأصلية في عهد أوباما.
بينما تحافظ هاريس على موقف حازم تجاه الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، قد تسعى أيضًا إلى استكشاف سبل خفض التصعيد لتفادي المزيد من الصراعات في المنطقة. سيشمل هذا النهج دعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مع السعي في الوقت نفسه إلى منع إيران من توسيع نفوذها من خلال الجماعات الموالية لإيران.
قد تثير السياسة المتساهلة المفترضة للحزب الديمقراطي تجاه إيران جدلاً، خاصة بين المجموعات المؤيدة لإسرائيل وصناع القرار الأمريكيين المتشددين. في ظل كونغرس منقسم، قد تواجه هاريس عقبات كبيرة في تنفيذ هذه السياسة المحتملة تجاه إيران خاصة إذا سيطر الجمهوريون على أحد المجلسين أو كليهما، مما قد يحد من قدرتها على الانخراط في دبلوماسية شاملة.
في حين أنه من الواضح أن النظام الإيراني الحالي لن يكون حليفًا للولايات المتحدة، بغض النظر عن الحزب الحاكم، فإن المرشحين يختلفون بشكل كبير في نهجهم في كيفية احتواء التهديد الاستراتيجي الإيراني. بينما يعتقد ترامب – في هذه المسألة وفي مسائل أخرى أن الحق مع الأقوى،من المرجح أن تستكشف إدارة هاريس تدابير خفض التصعيد مع دعم حلفاء أمريكا في المنطقة بحزم.