رياضة
مع انتشار الموجة العالية من مهاجمة اللاجئين، أطلت علينا بطولة يورو 2024 بمفاجأة كانت مناسبة لدحض هذه الفكرة! على اليمين؛ كان لامين يامال بقدمه اليسرى، وعلى اليسار نيكولاس ويليامز بقدمه اليمنى، ونجح الثنائي الشاب في جلب بطولة اليورو لمنتخب إسبانيا، رغم كونهما من ثقافة أبعد بكثير من إسبانيا نفسها.
من إفريقيا، خرجت أسرة لامين باحثة عن حياة مختلفة من تلك في القارة المظلومة، واستقرت الأسرة في إسبانيا، وابتسمت لهم الأٌقدار، حتى وإن لم يُدركوا ذلك، في جلسة التصوير التي جمعت نجلهم لامين، مع النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي عام 2007. جلسة التصوير التي تمت عام 2007، بين الأرجنتيني ليونيل ميسي، موهبة برشلونة في ذلك الوقت، وطفل صغير، والده من المغرب، ووالدته من غينيا الاستوائية، اسمه لامين.
في الحقيقة، هذه الجلسة أغرب مما تبدو، ليس لأنها صورة للاعب قد أصبح أسطورة، وطفل تحول إلى نجم معروف فحسب؛ بل ما يجعلها أغرب، هي تدبير الله لمثل هذه القصص التي لا يمكن تخطيطها من قبل البشر، تخيل كم المواهب التي تخرج للنور ويُقال عنها ميسي القادم أو رونالدو القادم، والغالبية العظمى منهم كانت ظروفهم أقل مما كان مُتوقعًا لهم.
ثم تأتي جلسة منسية، من أرشيف صحيفة؛ لنكتشف أن الذي يحمله ميسي هو اللاعب الذي سيخوض نهائي اليورو، للمرة الأولى في مسيرته، في نفس الأمسية التي سيلعب في فجرها ميسي النهائي الخامس له في بطولة كوبا أميركا!
بلا دعاية، ولا ضجة، وبدون التضخيمات، بدون أن يسعى أحد لتلميع المشهد؛ هنا تتجلى قدرة الله عز وجل، في صنع أحداث لا يستوعبها العقل البشري بسهولة. بعد سبعة عشر عاماً من تلك الجلسة، كان لامين يحصد لقب البطولة الأوروبية الأغلى، كأصغر لاعب في تاريخ اليورو يُحقق البطولة، في أمسية حقق فيها ميسي اللقب الرابع في مسيرته مع الأرجنتين، وهُما على موعد مع سوبر تاريخي بين إسبانيا والأرجنتين في كأس الفيناليسما في العام القادم.
تتكون أسرة لامين من أب مغربي وأم من غينيا الاستوائية، وكان على لامين يامال أن يختار بين موطن الأب أو موطن الأم، أو أن يُمثل البلد الذي وُلد فيه وتقلد بتقاليده، وهو ما اختاره في نهاية الأمر.
في غرفة ملابس المنتخب الإسباني للشباب، كان لامين يامال يرتدي قميص المنتخب المغربي مكادةً في الإسبان، بعد أن نجحت المغرب في تعطيل القطار الإسباني نحو محطة ربع النهائي في بطولة كأس العالم قطر 2022، وظفرت هي ببطاقة الوصول بدلاً عنه.
في الحقيقة، لامين نفسه لم يتوقع أن تسير الأمور بهذه الكيفية؛ أن يدخل بديلاً في مباراة ودية بين برشلونة وتوتنهام في بطولة كأس خوان غامبر، ثم يحجز مقعداً أساسياً في تشكيل برشلونة الأساسي، ثم يتم استدعاؤه للمنتخب الإسباني الأول، ويثق به المدرب دي لافوينتي ويُعول عليه، وكانت بطولة اليورو، التي أعقبت موسماً كبيساً لبرشلونة، كان لامين نجمه الأول واللاعب الأكثر شخصية؛ هي البطولة التي لم يكن يحتاج فيها لامين لإثبات نفسه، وإنما لاكتساب الخبرة.
في المؤتمر الصحفي، الذي يسبق مباراة فرنسا وإسبانيا في نصف نهائي بطولة اليورو، قال أدريان رابيو، إن لامين يامال يتمتع بقدرات كبيرة، لكن عليه أن يبذل في نصف النهائي، أكثر مما بذل طوال البطولة؛ إذا ما أراد العبور!
اكتفى يامال بصورة عبر حسابه على منصة الإنستغرام، يتحدث فيها عن لعبة الشطرنج، وطريقة التحدث بهدوء، حتى تصل إلى الخطوة الختامية في الرقعة: كش ملك.
الغريب، أن الهدف الذي سجله يامال، كان الرجل الذي يحول بينه وبين المرمى، هو رابيو نفسه، الذي لم يتوقع أن تذهب الكرة بهذه السرعة، والدقة، في شباك ملكه المحمي من العساكر وفي مقدمتهم رابيو.
خلف المرمى، ظهر أحد المشجعين الفرنسيين، وهو يضع يديه على رأسه، والكرة قادمة نحو مرمى منتخب بلاده؛ وكأنه كان يستعد لتأبين الملك، وفعل حينها يامال، أكثر مما فعله طوال البطولة، بل ربما طوال مسيرته التي هي في مهدها.
فيما بعد، اختتم لامين يامال البطولة، والكأس في يده، وأصبح لامين اللاعب الأكثر صناعة في تاريخ المنتخب الإسباني في بطولة واحدة في اليورو، ويحصد جائزة أفضل لاعب شاب في البطولة، ويبصم على انتصارات إسبانيا تقريباً في بطولة لم تتعثر فيها إسبانيا أبداً، في ملحمة كان فيها ابن اللاجئين: السيد يامال منير نصراوي، والسيدة شيلا إيبانا، هو رجل إسباني بصبغة إفريقية.
على عكسه، كان نيكولاس ويليامز؛ فكل أبواب إسبانيا مفتوحة، لكن باب إقليم الباسك عادةً ما يحتاج إلى مفتاح له بصمة مختلفة، إقليم الباسك الذي يعتز بجذوره وبدت تلك الجذور في شجرة أتلتيك بلباو؛ الفريق الباسكي الذي يرفض تمثيله من قِبل من لم يولدوا في إقليم الباسك!
فعائلة ويليامز كانت من المهاجرين أو في مصطلح آخر “اللاجئين”، الذين عبروا قارة إفريقيا ليصلوا إلى أوروبا، وتحديداً إسبانيا، وكان إينياكي ويليامز يتساءل دوماً عن الاختلاف الكبير بينه وبين أقرانه الباسكيين، في الشكل وفي اللون كذلك.
حكت الأم، القصة التي أبت لسنوات أن تحكيها، وفي الليل، بعد عناء التدريبات مع بلباو في الصباح، كانت قصة وصول أسرته للباسك واضحة بالنسبة له ومفهومة، رغم مرارتها. التقرحات التي أصابت قدم والده من حرارة الصحراء، والتي تركت أثراً في قدمه إلى يومنا هذا، والدته التي كانت تحمله في بطنها وكانت مُعرضة للإجهاض، الأسرة التي رأت الموت في كل خطوة من بعد الخروج من غانا بسبب الحرب؛ كانت هذه هي النقاط الرئيسية في القصة.
تركت الأسرة الموت الذي تراه في الأسلحة، لتُلاقيه في كل خطوة في رحلة استقرت في النهاية في بلباو، من المساومات، إلى الناس الذين لم يُقتلوا بفعل السلاح لكن مشقة الهجرة قتلتهم في الطريق، اغتصاب النساء، المُخالفين الذين قتلتهم السلطات بسبب تخطيهم للحواجز الممنوعة.
لجأت أسرة ويليامز سياسياً لإقليم الباسك، وأصبح إينياكي هو الواجهة المختلفة للإقليم كله، وفي الأسفل، كان نيكولاس ويليامز يصعد السلم في ظل شقيقه الأكبر، وأصبحا معاً في مصاف الكبار في صفوف بلباو، وحجزا مقعدين أساسيين، مهما تعاقب المدربون عليهما.
لكن إينياكي لم يصل بتلك السهولة، ربما تقبل فكرة ابتعاد الأب عن الأسرة لتوفير متطلبات العيش، وتحول إينياكي إلى الشقيق الأكبر والعائل الأهم فيها، وقرر أن يعمل في أية وظيفة تحمي أسرته من خطوط الفقر.
لكن اللاجئ هو لاجئ، مهما قدم، تماماً كما وصف مسعود أوزيل هذا المشهد: “أنا ألماني حين ننتصر، ولاجئ حينما نخسر”.
لم يسلم إينياكي ولا نيكولاس من بطش العنصرية، سواء في الإقليم الباسكي نفسه، ولا حتى في الملاعب الإسبانية كلها، وكان عليهما أن يتأقلما مع هذه المعضلة التي فُرضت عليهما، وأن يتقبلا هذا الاختلاف بصدر رحب.
وكان من بين هذه الهجمات العنصرية، تلك التي أصابت حسابات نيكولاس ويليامز بعد أن قدم فترة سيئة مع أتلتيك بلباو، وكل الأفعال العنصرية التي ستتبادر إلى ذهنك في هذه اللحظة قد حدثت لنيكولاس بالفعل.
مما يعني أن معضلة اللجوء لن تتوقف في العالم، ولن يراها المعنيون إلا كما هي، مهما كانت الفائدة من اللاجئ، ومهما كان سبب لجوئه، سيبقى اللاجئ لاجئاً في كل مكان، ولن تحتضنه الأرض التي يبرحها بنفس الكيفية التي أرادها، تماماً كما لم تحتضنه أرضه الأم بالكيفية التي تريحه.
في الفوز سيكون استثنائياً، لكن في الإخفاقات سيكون أول الضحايا وأسهلهم؛ هذا لأن كرة القدم كما كل شيء في الحياة.