سياسة

أمة عاجزة أم “معجَّزة”؟

يونيو 27, 2024

أمة عاجزة أم “معجَّزة”؟

كلبٌ ينهش لحم عجوز في غزة، وجريمة جديدة من تلك التي تسبب أرقًا لأمة كاملة، وتثير الثأر الأسود في قلوب ملايين “المشاهدين”، وتترك الناس مكبلين بالصمت، لا يجدون حروفًا تسعفهم في مثل هذا الموقف، وأمام مثل هذا المشهد، ليعبروا عن البركان في داخلهم؛ حمم تغلي، ونيران تثور، وغضب يبتلع أفئدةً كانت تحب الحياة، فباتت أقرب إلى تمني الموت مع أهل غزة، بدلًا من التفرج من بعيد، خاصةً مع غياب الفعل والحركة، إلا من مقاطعة ضرورية لكنها بالنسبة لهم لا تغني عن الحراك الحقيقي شيئًا، مجرد رفاهية، كالتنزه في ساحة حرب دون أن تمسَّك ذرة غبار واحدة.

 

تلك الشعوب التي كانت تحركها غارة على بناية، أو قصف متصل لليلتين، أو تجرُّؤ على اقتحام الأقصى، أو تمثيل بجريح أو شهيد، تلك الحشود التي كانت تقتحم السفارات، وتقلب الميادين، وتربك حسابات الدول، وتجبر حكوماتها وأنظمتها على الخضوع للشارع، بتهديد المحتل بالانفجار، حتى يكفّ عن تبجحه وغطرسته، تلك الجموع التي تزحف نحو الحرم الدبلوماسي المحظور، فتهدم السور، وتجاوز المستحيل، وأحيانًا تصل إلى غرفة نوم السفير نفسه، وتكاد تصنع من أوراق الوثائق والعلم القبيح دواسةً تحت أقدامها، يؤرق تلك الشعوب أنها اليوم بلا أي أثر، ولا مسير، إلا “النضال الإلكتروني”، بينما الأحرار من شعوب الغرب يفترشون الشوارع منذ أشهر، ويقتحمون المصالح الإسرائيلية، ويخربون واجهات المصانع والشركات المحسوبة على الاحتلال، ويعطلون السفن نفسها من المضيّ إلى موانئ الأراضي المحتلة.

 

كل ذلك ويتصاعد خطاب من قلب الشعوب إلى الشعوب نفسها، وليس فقط ذلك الخطاب من غزة، وغزة لها حقها في أي خطاب تريد وتتحدث ولو قطعت أعناقنا، ولكن الخطاب الذي يقزّم الشعوب من بين ظهرانيها، ويلعن عجزها وصمتها وسكوتها، متجاهلًا الكثير من الحواجز الموضوعة أمام ملايينها، وهي شعوب لا تستخسر التضحية ولا تستكثر الفداء على غزة، ولو أرادوا أن يقطعوا إليها طريقا من ألف كيلومتر سيرًا على أقدامهم، فيقتل ويعتقل منهم مليون إنسان بينما يصل مئة ألف إلى الحدود، لفعلوا، ولكن الواقع أن حتى هؤلاء المئة ألف لن يصلوا أبدًا، وإنما لديك نظام مستعد لقتل الجميع، مقابل ألا يتحرك متحرك، ولا يأتمر إنسانٌ، إلا بأمره ورضاه وتحت عينه.

 

ذلك الخطاب المحبّط المثبط، الذي لا يجيد إلا الجَلد والرجم، له مساوئ تفوق بكثير منافعه، إن صحت له منفعة أصلًا، وهو أن الأمة التي تهاجَم وترمى بالعجز دون فهم رصين للواقع، أعمق من سخونة اللحظة، فإن ذلك يحيلها إلى شيء من اثنين، الأول -وهو بعيد- أن تكسر ذلك العجز بالحركة، والثاني -وهو الأقرب- أن تنكسر على نفسها، وتنغلق، وتنطوي، وتختار الركون إلى استسلامها، حتى تموت بحسرتها، وما نفع ذلك للمعركة؟ لا شيء سوى أن خسرت جيشًا محتملًا انضمامه في المستقبل، حين يرفع عن كواهله نيَر الاستبداد والاستعباد.

 

وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن الشعوب، أو تخفيف الحمل عنها، وأنا منهم، مذنب مثلهم، ولا أملك من أمري ولا أمرهم شيئًا، وإنما ألومها بالقدر الذي يحركها لا يحرقها، وأعاتبها بل وأهاجم خنوع بعض أقوامها، لكن بالدرجة التي تدفعها ذات يوم للثورة ضد الحواجز التي تعيقها أولًا، وحينها ستكون الحركة تجاه غزة والقدس أيسر بكثير، لأن الذي لا يستطيع تخطي كمين في القاهرة ولا السويس ولا العريش، أنَّى له أن تجده على الحدود في رفح؟ وكذلك في جميع بلداننا العربية.

 

وعليهِ، فبقدر مرارة الوضع، علينا الإجابة على سؤال هل الشعوب عاجزة أم معجّزة، كسلانة أم مكبلة، خاذلة أم مخذَّلة؟ وحينها يمكننا إعادة صياغة الخطاب بما يلائم الواقع، وإجادة البلاغة اللازمة بأن يناسب الكلام مقتضى الحال، فثمة شعرةٌ رفيعة بين البلاغة والمبالغة، من جاوز الأولى بعاطفته سقط في وحل الثانية، وحينها لن تجني القضية إلا المزيد من الهم على القلب، بشعوب مستسلمة، لم تفرغ ذلك المخزون الهائل من الثأر إلا في قلبها المثقل بالجلطات، والمريض بالنوبات، والمقتول بالعجز والتهَم الملفقة.

 

صحيحٌ أن الوضع الكارثي يمنعنا من الاستناد إلى العقل ولو لثانية، ولكن الحقيقة أن هذه الشعوب ستثور لا محالة، وتلك الأنظمة التي تبيع غزة وتشتري في أهلها ليست إلا أرجلًا في عرش إسرائيل، وقوائم في أسرّتها، متى سقطت أو احترقت أو تزحزحت، كان القضاء على الكيان الوظيفي أقرب، وكان زوال المعتدي بإزالة أركانه في خواصر بلادنا أكثر منطقيةً، وكان الثأر المحموم المعتّق أكبر قدرةً على الانتقام من كل المجرمين، لا المجرم الذي في تل أبيب وحده.



شارك