أتذكر أني شاهدت مقطعاً مصوراً لحضور مجموعة من الشخصيات ذات الوجاهة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ممن يصنفون بأنهم طغاة العصر وأسياد الظلم والبطش فيها وهم يؤدون الصلاة على هامش مناسبة من المناسبات ذات الطابع البروتوكولي، ويومها تأملت تأملاً كبيراً في حال الإنسان وتمرده على كل شيء ظناً منه أنه أقوى وأكبر من كل شيء، ودون أدنى خوف من حدوث أي شيء، والتأمل لم يتوقف بي عند ذلك الحد، بل أخذ بيدي إلى مكان آخر حيث تبدأ الصراعات بين الهواجس والأفكار حول كيفية اتخاذ القرار لدى الطاغية المتمرد على قوة الله العظمى، حتى يقف بكل انقياد ويرفع يديه من أجل تكبيرة الإحرام، وقبيل دقائق كان هو المتمرد بشحمه ولحمه، ويزأر ويزمجر دون أن يلتفت إلى شيء سواه، ولكن ما إن استقرت سفينة أفكاري على جودي الحقائق إلا وقد أدركت حينها أن الصلاة بأكملها ما كانت إلا أحد بنود جدول أعمال تلك المناسبة وأن الأمر بأكمله كان استكمالاً لفصول المسرحية.
إن الإنسان بطغيانه على فطرته أولا،ً ثم على حدود ما رسمه له الدين أو أي شكل من أشكال التهذيب للجنس البشري، يتعدى بتأثيره وخطره إلى المجتمع، فمع الوقت نجد أن المجتمع وللنظرة الأولى يمكن أن يوصف على سبيل المثال بأنه مجتمع محارب للفضيلة والقيم، ولكن في حقيقة الأمر أن التمرد الذي يقوم به أفراد أو كيانات إن لم يقابل بكبح لذلك الجماح ذو النزعة المتوحشة سيجعل من أي صفة تمردية هي الصفة الغالبة المشكلة للعقل الجمعي في المجتمع، فيبدأ حينها التسليم بنجاح ذلك التمرد وقبول ما يأتي به من أي تصرف يقوض من قيم المجتمع وفضائله التي نشأ عليها.
إن المتأمل لانحسار معالم العدالة وتكافؤ الفرص في مجتمع من المجتمعات لن يدوم تفكيره طويلاً حتى يدرك أن شخصاً ما قد توسد يوماً من الأيام أحد المراكز ثم قرر أن يتمرد ويطغى ويكرس كل أشكال الظلم بدايةً من قولبة وشيطنة الرأي الآخر المخالف له، ثم نشر مظاهر الخوف والترهيب في المجتمع إن هم قبلوا بمخالفيه، وبعد ذلك تأتي أدوات البطش المكملة للنهج السلطوي المستبد من اعتقالات واغتيالات ومحاكمات، وقبل تلك الخطوات فإن من لوازم ذلك الطغيان هو الشعور بالقوة العظمى التي لا يمكن أن تقهر أمام أي شيء، وحينها يتعالى على سنن الله الجارية والماضية في كونه وخلقه، ولا يعترف بمبادئ الجزاء والعقاب لا عاجله في الدنيا ولا آجله في الآخرة.
إن مما نحتاجه فعلاً قبل المضي قدماً في مواجهة المتمردين وذوي النزعات الطغيانية هو فهم لحقيقة وأصل تلك المنطلقات، فالبعض يذهب إلى الطغيان ويتخذه منهجاً له في حياته لأنه ورث القوة والجاه المسهلين له الوصول إلى ما يريد بشكل أسرع وبمقاومة أخف، ولكن في ظني أن العوامل المساعدة على تلك الممارسات الطغيانية منشؤها بشكل أكبر من المجتمع، فمتى ما كان المجتمع وديعاً خاضعاً لا يعنيه من أتى ومن ذهب، وماذا أخذ وماذا ترك، ستتكون بيئة حاضنة وراعية للاستبداد وبكل حفاوة، بل وسيعتاد غالبية المجتمع على القرارات والإجراءات الفردية والتعسفية والمتسلطة على حقوق الناس وأرزاقهم وحرياتهم لأنهم لا يرون في ذلك بأس البته.
إن من ينظر إلى تقهقر الكيانات والجماعات والاتحادات والنقابات وابتعادها عن دورها الحقيقي في صيانة المجتمع وحمايته أمام المحاولات الرامية نحو تقليص الحقوق وسلب المقدرات سيدرك تمام الإدراك أن المجتمع قد أصبح ظهره مكشوفاً أمام أي طعنة مستبدة، فالساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية أصبحت فارغة من صانعي التأثير والمنظرين والمحركين للأفكار، بل وإن ميادين العمل المجتمعي والإصلاح التربوي أصبحت الأنشطة والاجتهادات فيهما عشوائية ومبعثرة، وهذا كله قد ولد لدينا ترهلاً تنظيمياً انعكس بشكل مباشر على الشلل الحركي في غالب المجتمعات، ويمكن أن نعزو ذلك التراجع إلى غياب القيادات الفاعلة العاملة المتواجدة والحاضرة بين أفراد الناس ومشكلاتهم اليومية، وكل ذلك الفراغ تم ملؤه من قبل المستبد بما أرده وابتغاه.
إن الطغيان البشري بأشكاله المتنوعة يصعب علاجه ولكن يسهل ويمكن الوقاية منه، فليس من مصلحة أي طرف أن يكون هناك عنصر طاغي بأفعاله وتصرفاته لأنه سيضر بالمؤسسة التي يمثلها على المدى القريب وعلى المدى البعيد، فكلما كانت هناك تحضيرات مبنية على أسس إيمانية وسلوكية لقيادات المستقبل أو ممن يتوقع منهم أن يكونوا مؤثرين لما لديهم من إمكانات ومؤهلات أو من فرص وراثية ستبوئهم سلطة القرار، كلما تهذبت الشخصية في المستقبل وأصبحت أكثر اتزاناً وحفاظاً على السلطة التي لديها من نزعات التمرد والاستبداد.
وفي الطرف الآخر ينبغي أن يكون المجتمع مستوعباً لمفاهيم الحقوق والواجبات من ناحية، وكيفية الحفاظ عليها والدفاع عنها أمام الاستبداد من ناحية أخرى، فالتحضير والتأهيل المجتمعي وفق مفاهيم التضحية والفداء والصمود والتجرد جميعها ستساهم في تأخير الاستبداد والطغيان وحصره في أطر ضيقة، والوقاية هي من تسد الفراغات والفجوات ولا تبقي مجالاً لنزوات النفوس المريضة المتعطشة لمص دماء الضعفاء والبسطاء.