تأملات
توزّعت القصّة المعروفة لدينا في سورة الكهف بين ثلاث ثيمات رئيسية، اثنتان منهما على صعيد المادّة، وواحدة على صعيد الروح.
أولا: السفينة (ثيمة السلب):
يقول الله عز وجل على لسان سيدي الخضر عليه السلام:” أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا”(79) لقد كان ثقب السفينة في ظاهره أمراً سيئاً لأصحابها الفقراء الذين ربّما لا يمتلكون المال لرأب صدعها، وهنا تتجلّى ماهية الضرر الأصغر، أي أنّ الثقب الذي أحدثه سيدنا الخضر عليه السلام في السفينة دفع بذلك ضرراً أكبر وهو سلب السفينة بأكملها، وربما لهذا يتداول الناس عند حدوث نائبة ما قولهم (الحمد لله فقد دفعتْ ما هو أعظم).
لقد كان المثال الأول على الصعيد المادي الذي يكون كلَّ شيء لصاحبه الفقير، اليوم في غزة داس الاحتلال الكثير من أصحاب المهن البسيطة والذين يتكسبون قوتهم اليوميّ من خلال تجارتهم البسيطة اليومية، بسطة لبيع القهوة والشاي، أو بيع الملابس، قطف المحاصيل الزراعية، وربما فقد سيارته التي يتكسب منها كسائق أو “تُكتك” يعمل عليه في نقل البضائع وهو كل ما يملك.
للوهلة الأولى يسأل المرء: “ما كل هذا الظلم الذي يحدث لهؤلاء الفقراء؟”، ولكن قد أجابنا الله عز وجل على هذه الأسئلة التي نطرحها اليوم منذ أن قال سيدنا الخضر عليه السلام: “وما فعلته عن أمري” وبذلك يُخرجُ نطاق الأمر من ذاتيته إلى ذاتية الله عز وجل فيغدو لنا أمرا متقناً حكيماً دقيقاً في كل تفاصيله الزمانية والمكانية والإحداثيات التي ترافقه.
ثانيا: الغلام (ثيمة السلب):
ولأنّ فقدان فلذة الكبد هو من أعظم الابتلاءات على الإنسان وأشدّها أفرد لها ربّنا عزّ وجل آيتين تشرح لنا ما وراء هذا القتل بخلاف السفينة والتي جاء مشهدها في آية واحدة.
الآية الأولى في شرح سبب قتله ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ ( 80 – الكهف ) حدث هذا لإيمان أبويه ومنعاً لشقائهما مستقبلاً ، هما في وقت حدوث الفاجعة لا يدركان تفاصيل الغيب التي تحفها الرحمة يعني أن المصائب التي تطال المؤمنين هي من أجلهم وكأن الله عز وجل يقول أخذت منك ابنك لأجلك وليس من أجلي.
الآية الثانية ” فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ” ( 81 –الكهف). الإبدال أو التعويض بالإبدال مقرون بوقوع السلب، وكأنه يخبرنا بأن القابض قرين الباسط وكأنما قبض ليبسط، قبض الأقل نفعا ليبسط الأكثر نفعا. تقول الرواية بأن الأبوين عوضهما الله ببنت أنجبت سبعين نبياً وأذكر هذا من باب الاستئناس فحسب وليس من باب تأكيد المعلومة، المفردة (يبدلهما) دائماً أقع في دهشة المفردات القرآنية، فالإبدال لا يقع إلا بتبديل شيء مقابل شيء وأنت حين تُبدّل شيئاً في الحياة بشكل عام فذلك يكون في إطار الأنسب والأنفع لك،وغالبا يحدث على صعيد الجنس ذاته لكنك تبحث عن جودة أعلى.
والاستبدال لا يتم إلا حين تسليم القطعة التي تريد تبديلها ليتم وكأن القدر الإبدالي مرهون بالتسليم الظاهري والباطني، الظاهري بأن تحتسب لوجه الله ما فقدت على المستوى المحسوس المادي ، والباطني التسليم لأمر الله النافذ والذي لا يكون عبثاً.
تأخذني هذه الآية إلى أبعد من هذا أن قدر الله عز وجل مرهون بتحوّلات دقيقة وإشارات معينة بموازين ثابتة، وكأنّ السلب هو إشارة حدوث الإبدال، تلك الإشارات التي يبني الله عز وجل عليها الكثير من الأحداث الفارقة في حياة الأنبياء والرسل والمؤمنين والصالحين، يعني كان يجب ان يفور التنور (مكان النار) بالماء ليتلقى سيدنا نوح الإشارة ويصعد هو والمؤمنين في السفينة. أن يتم سيدي رسول الله صلى عليه وسلم الأربعين لينزل عليه الوحي. أن يصوم سيدي زكريا ثلاث أيام عن الكلام لتتحقق البشارة. ثم يقول ربي عز وجل بوصف الغلام الذي سيبدلهم إياه (خيرا منه زكاة) أي دينا وأخلاقا ، (و رُحما) أي برا بهما فيتجلى صوت الله عز وجل لنا مرة أخرى ليقول: فعلت هذا بك يا عبدي من أجلك.
أرى الآن فقداً عظيماً في غزة وسجلات مدنية كاملة تُمْحَى، وإذا كانت هذه التحوّلات على صعيد الفرد يجب أن تحدث بميزان الله فكيف على صعيد النصر المبين الذي وعده الله عز وجل لأهل فلسطين؟، وإنَّ عِظَم الابتلاءات الآن هي إعداد ربّاني يصنعه على عينه لإحداث تغيير في كونه، يتطلب التغيير هذا الكم من الصبر والاحتساب والثبات واليقين من عباده في أكناف بيت المقدس، وإن استشرى الظلم وتعاظم الخذلان ولكن كل ما يحدث في الحقيقة هو بأمر الله الخبير.
ثالثا: الجدار (ثيمة العطاء):
“وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا”، طفلان يتيمان ترك لهما والدهما إرثا تحت حائط مائل يعيد بناءه سيدنا الخضر دون أن يكترث لسوء معاملة أهل القرية له ومنعهم الطعام عنه، إذا كان الطفلان قد أصبحا يتيمين فلا يعني ذلك الضياع، يريد الله عز وجل أن يخبرنا أنه موجود: أنا رب هؤلاء الأيتام، يتساءل المرء كثيرا خاصة في هذه الحرب الهمجية على غزة (كيف يعيش طفل هو الناجي الوحيد بعد استشهاد كل عائلته أو كيف يعيش بلا أبوين؟)، فكما ساق الله عز وجل سيدنا الخضر عليه السلام لأولئك اليتيمين يسوق الله لأيتام غزة من يُقوّمُ جدرانهم المهدومة وقلوبهم الممزّقة حتى وإن كانت الأسباب كلها لا تقود لذلك مثال ذلك (قرية أهلها سيئون وجدار متصدع وطفلان وحيدان يتيمان) مقابله (يُبنى الجدار دون أجر لهما، ويُحفظ الكنز) لأن الله يحفظ مستقبلهما وإن لم يكن هنالك أب يخطط لذلك المستقبل على الصعيد الملموس فهنالك رب قد خطط لمستقبلهم وسخّر له الأسباب منذ الأزل.
وقد توزّعت القصّة بين عنصرين (للسلب ) وعنصر واحد (للعطاء)، ليقول الله عز وجل أنّ ابتلاء المؤمن في الفقد الماديّ أو الروحيّ هو الأعمّ والأكثر شيوعاً، فسبحان من جعل الإيمان مرادفاً للجمال والحبّ والإحسان والثقة به ومرادفاً عظيماً للصّحة النفسية. فالقدر إذا وقع ونفذ فالإنسان إمّا أنْ يكونَ عارفاً فَيَسعدُ بإيمانه وإمّا أن يكونَ جاهلاً فيشقى بقلة إيمانه، والحمد لله ربّ العالمين.