كثيرًا ما كان الخيار هو العلكة التي يلوكها المتفرجون على غزة، لتخدير ضمائرهم بأن هؤلاء المذبوحين صامدون، لا بأس عليهم، وكل تلك المشاهد تختزل في شعور الصمود وحده، كأنه لا وجع، ولا حلم، ولا أمل، ولا حق في الإحباط أو اليأس، أو الصراخ من التعب، أو النداء حتى بوقف الحرب، كان الصمودُ هو ذلك السلاح الذي يشهره في وجهك المزايد عليك أو المتأمل فيك أو المشاهد لك، من دون أن يبذل هو قطرةً من محيطك، ودون أن يرى أي شيء مما رأيت، لكنه يحملك الفاتورة كاملة، فاتورة فعلك، وفاتورة خذلانه وصمته، اصمد بمعنى “اصمت”، ولا حق لك في أن تقول إنك منهك.
من هنا تحديدًا كانت الحساسية لكلمة “الصمود”، وشعر هؤلاء الجريحون بأن العالم كله ينتظر صمودهم لا غيره، وينكر عليهم ضعفهم إن ضعفوا كأي بشر عاديين، ويمنحه ذلك النشوة التي يريدها ليسكن، وتهدأ خواطره المضطربة، ولا يبالي بأي شيء، في مشهد عاطفي تمامًا، يتحاكى فيه بصمود الغزيّ، وينظم فيه أشعاره ويغزل نصوصه وينسج أساطيره، حتى غدا “الصمود” نفسه عبئًا على الصامدين، وكان ذلك جرم المتفرجين في المبالغة في العاطفية والشعبوية، في انفصال عن الواقع والثمن والضريبة والشعور الكامل.
لكن البعض على الطرف الآخر، قد تحلو له نغمة إنكار الصمود نفسه، وليس استنكار المزايدين عليه، بمعنى أنه يريد إيصال رسالة للعالم أن أهل غزة ليسوا صامدين، هو لا خيار لديهم أصلًا، لكن ما يعيشون فيه ليس صمودًا، هم مستسلمون فقط للواقع وحسب، مجموعة من الضحايا المذلولين بآلة القمع لا أكثر، في حرب لم يختاروا بدء ضربتها، ولم يشتركوا في قرار بدايتها، قطعان من المسحوبين في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمال، فمن أين تسمون هذا صمودًا؟ (ذلك قولهم، وحاشا لأهل غزة أن يكونوا كما يصف بعض الحمقى).
لكن هذه الفرضية الحمقاء لا تبالي بأن تنزع صفة الصمود عن مئات آلاف الصامدين فعليا، الذين اتخذوا الصمود خيارًا لا اضطرارا، فاختاروا ألا يخونوا المقاومة، وألا يشوا بمكان مقاوم رأوه، أو بموقع تدريب يعرفونه، أو بقريب لهم في صفوف القتال..
واختار الرجل الذي دخل النفق مسحوبًا بحبل أن يخبر المقاومين أن الجيش مستدرجه، واختار الطبيب الذي كُسرت عظامه وسُحقت آماله في الحياة ألا ينطق كلمةً واحدةً تدين المقاومة أو تجرمها أو تبرر لقتل آلاف المظلومين، واختارت السيدة أن تربّي ابنها وتبعث به إلى النفق بدلًا من الجامعة ذلك العام، واختارت الزوجة أن تصبر على غياب زوجها الذي ينفق زهرة عمرهما في ساحات الوغى، واختار سبعمئة ألف إنسان ألا يغادروا الشمال حتى لا تخلو الساحة على الاحتلال، رغم أن ذلك يجعلهم أدنى من الموت، وأقرب من الاقتحام، وأن يدخل عليهم بيوتهم أشر أهل الأرض وأرذلهم على مر الأزمان، فيرتكبوا المجازر والفظائع.. ألم يكن الصمود خيار هؤلاء؟
ثم اختار مليون إنسان الصمود بطريقتهم، حين نزحوا من ديارهم وتركوا كل شيء وراءهم، بما في ذلك لقيمات ومعلبات وأرائك ووسائد، احتسبوها حلالًا على أولادهم المقاتلين، الذين قد يلجؤون لاستخدام أي منها، أو حتى تفجير منزل بأكمله لعملية كمين مفخخ، أو أن يستنفعوا بما تُرك من أموال وذهب ليقضوا به أيًّا من حوائجهم، حتى كيس الإندومي الذي يتركونه خلفهم لشباب المقاومة.. اسمه صمود، وخياري، لا إجباري!
أحدثك عن الصمود أكثر، حين يسقط البيت فوق رؤوس سكانيه، وتخر القواعد من السقف، ويذهب النسل كاملًا والأصل، ولا يبقى إلا رجل واحد لا يسع قلبه بالكاد حزنًا واحدًا فيفاجأ بأربعين سرادق عزاء في صدره فجأة، ودفعةً واحدة، ثم يخرج ليقول إن هذا فداءً لله والمقاومة، وبعضهم يشخصن الأمور أكثر، بمنطق “جدعنة” ابن البلد، فيقول فدا “الضيف”.. ما اسم هذا المشهد إلا الصمود؟
ومعلومٌ بالضرورة أن ليست كل غزة هكذا، ولا على الدرجة نفسها من المشاعر والتحمل والفقد والتضحية والفداء، لكن المفاجأة، يا عزيزي، أن حتى الذين لم يختاروا الصمود اختيارًا، ويمثل بالنسبة لهم عبئًا وقرفًا ولا يطيقون اليوم الجديد الذي تشرق فيه الشمس، ويريدون إنهاء المعركة بأي ثمن كان، هم من الشرف والكرامة والشهامة والنخوة بمكانٍ يجعل ما هم فيه -على الرغم من عدم اختياره بأي شكل- اسمه “صمود”!
كل هؤلاء المحاصرين المتعَبين، كل هؤلاء الذين مع المقاومة أو لو قابلوا السنوار في شوارع غزة اليوم لبكوا أمامه عتابًا وحزنًا وشجنًا، كل هؤلاء الذين في الأنفاق أصلًا وفوق الأرض يكابدون الأعداء كلهم في حرب كونية تستهدفهم وحدهم، كل هؤلاء الذين ضحوا طوعًا وكراهية، كل هؤلاء الذين لا يملكون أي خيار إلا الصمود، أو الذين اختاروه بعنايةً من بين ألف خيار آخر، كل هؤلاء الصامدين بمزاجهم أو رغم أنفهم، وكل هؤلاء الصامدين وهم يعلمون أن ما يفعلونه يصنف تحت خانة “الصمود”، كل هؤلاء صامدون ما داموا في غزة، أم الذين يزايدون عليهم متحدثين باسمهم من الخارج، نازعين عنهم أهم صفة بين أشرف الشيم في الكون والتاريخ والحياة والمعاني منذ 270 يومًا، فأولى بهم الصمت، والسكوت، وأن يخرسوا ألسنتهم إلى الأبد، وليدعوا الشرف لأهله، والصمود لأهله، والكبرياء لأهله، لأن الهوية المكتوب عليها “غزة”، ليست مبررًا كافيًا للتحدث باسمها، بينما يفعل البعض أفعال “إسرائيل”!