سياسة
لا يزال المرء يظن أن غزة قدّمت أقصى ما لديها من مفاجآت عسكرية ببراعتها وإتقان صنيعها في هذه المعركة٬ حتى تأتيك كفوف المجاهدين وعقولهم النابغة ببطولات جديدة تقهر العدو وتصعقه٬ وتُسعد الصديق وتثير دهشته٬ وذلك على الرغم من مرور 8 أشهر على هذه الحرب الطاحنة٬ التي صمدت بها المقاومة وحاضنتها الشعبية صموداً أسطورياً عزيزاً قلما تجد له مثيلاً٬ حتى في بطون الكتب.
ومن أبرز عناوين البطولة والعظمة العسكرية في هذه المعركة هي الكمائن المركبة التي نفذتها المقاومة في قطاع غزة٬ والتي لا يبدو أن الاحتلال يتعلم منها الدرس٬ فهو يقع في الحفرة أو “فتحة النفق” نفسها في كل مرة٬ تماماً كما حدث مؤخراً في بيت حانون٬ حيث كشفت كتائب القسام عن واحد من أطول الكمائن العسكرية في تاريخ مقارعة هذا الاحتلال٬ والذي دام نحو 26 ساعة. وكشفت المقاومة عن مشاهد وتفاصيل صادمة لكمين بيت حانون والذي تم على ثلاث مراحل ووقع يومي 22 و 23 مايو/أيار الماضي٬ وأوقعت به القسام عدداً من جنود الاحتلال في مصيدة رَسمت مسارها مُسبقاً٬ وعلمت جيداً أن قوات الاحتلال المتوغلة ستقع بها حتماً٬ مصيدة باهظة الثمن دفعت الاحتلال لاحقاً لوقف تقدمه في محور بيت حانون بشكل كامل.
القسام روت تفاصيل هذا الكمين المركب بالصوت والصورة في مشاهد بُثّت عبر “قناة الجزيرة”٬حول ما فعلته كتيبة “بيت حانون” بكتيبة “نتساح يهودا” التابعة للواء “كفير”٬ تلك الكتيبة الإرهابية التي تسمى أيضاً بـ”ناحال حريدي”، لأن قوامها القتالي هم من اليهود الأرثوذكس الذين يخدمون بها في بيئة تتوافق مع معتقداتهم الحريدية الدينية، حيث أن لهذه الكتيبة تاريخاً طويلاً في ارتكاب المجازر والإعدامات بحق الفلسطينيين٬ حتى أن الحكومة الأمريكية أعلنت في أبريل/نيسان الماضي نيتها معاقبة الكتيبة لارتكابها “خروقات حقوق الإنسان”، وذلك بحجب المساعدة والتدريب العسكري عنها.
برعت كتيبة “بيت حانون” في تنفيذ كمينها المركب الذي تضمن تفجير عبوات رعدية وإلقاء قنابل يدوية على قوة راجلة وصلت إلى “عين نفق” جهزته القسام وقامت بتفخيخه، ثم تفجير عبوات “شواظ” بقوة الإنقاذ حاولت إسعاف القوة الأولى، وصولاً إلى قنص 3 جنود إسرائيليين بينهم ضابط في المنطقة نفسها٬ إثنان منهم برصاصة واحدة٬ في عملية فريدة من نوعها بثت صورها، مما أوقع أفراد القوة المتوغلة من كتيبة “نتساح يهودا” المتطرفة بين قتيل وجريح٬ ودفعت جيش الاحتلال على الفور لسحب قواته من محور التقدم نحو بيت حانون -بوابة غزة الشمالية ومدينة شيخ القسّام ومؤسسها صلاح شحادة- بعدما أجلى الجنود القتلى والجرحى من مكان العملية، التي استمرت 26 ساعة متواصلة من الرصد والتفخيخ والاشتباك وتفجير العبوات وقنص الجنود.
لكن أكثر ما يلفت الانتباه في المشاهد التي بثتها كتائب القسام٬ وهي مفاجأة أخرى لا تقل أهمية٬ هو ظهور قائد عسكري يتابع مجريات الكمين المركّب عبر شاشة أمامه٬ ويعطي الأوامر لمقاتليه بتفجير “فتحة النفق” في قوات الاحتلال المتوغلة٬ وهو الرجل الذي صحفيون وناشطون غزّيون إنه “حسين فياض” (أبوحمزة)٬ قائد كتيبة بيت حانون في كتائب القسام٬ والذي سبق وأن أعلن الاحتلال عن اغتياله. وهي رسالة قوية من كتائب القسام لقادة الاحتلال٬ مفادها أن هذا الرجل الذي تطاردونه منذ عقود٬ والذي بنى منظومة قتالية هجومية ودفاعية في شمال غزة وأثخن مرات ومرات بجيش الاحتلال٬ لا يزال على قيد الحياة ويشرف بنفسه على الكمائن التي توقع جنودكم بين قتيل وجريح.
قبل كمين بيت حانون المركّب، نفذت كتائب القسام كمائن مشابهة عديدة كانت علامة فارقة في معركة “طوفان الأقصى”٬ ربما ستحتاج وقتاً طويلاً لدراستها٬ مثل “كمين الزنّة” أو “كمين الأبرار” شرق مدينة خانيونس الذي استمر الإعداد والتجهيز له 50 يوماً٬ والذي أوقعت به كتائب القسام في 6 أبريل 2024 ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك٬ قوة عسكرية قوامها فصيل مشاة من لواء “جفعاتي” بينهم ضبّاط٬ بين قتيل وجريح.
في ذلك الكمين الذي بثّت القسام مشاهده وأعلنت فيه مقتل 9 جنود وضباط (اعترف الاحتلال بمقتل 4 فقط) وإصابة آخرين٬ قام المقاتلون بزراعة عبوات في المنطقة التي شهدت تنفيذ الهجوم، قبل وصول جنود الاحتلال لمنطقة الكمين، حيث استقبلهم المقاومون برصاص كثيف وأوقعوا عدداً منهم قتلى، فيما لاذ باقي الجنود بالهرب تجاه أحد المنازل المفخخة الذي تم تفجيره كذلك. وتضمن ذلك الكمين المركب استهداف آليات قوات النجدة بعد وقوعهم في كمين مجموعة مضاد الدروع (الياسين 105)٬ واغتنام أسلحة القوة التي تم استهدافها وقتل معظم أفرادها.
أيضاً٬ لا ننسى كمين جباليا الذي وقع يوم 25 مايو/أيار 2024 حيث استدرجت كتيبة جباليا في كتائب القسام جنود الاحتلال إلى عين نفق٬ ظن الجنود أنه آمن بعدما أدخلوا طائرة “درون” لاستكشافه٬ لكن العدو فشل في رصد المقاومين٬ الذين اشتبكوا مع قوات الاحتلال المتقدمة من مسافة صفر٬ وأجهزوا على عدد منهم٬ وفجروا بهم عين النفق.
لكن جيش الاحتلال الذي لا يتعلم الدروس كالعادة٬ حفر بعدها المنطقة المحيطة بعين النفق وصولاً إلى مساره٬ وأدخل جنوداً آخرين إليه٬ لاعتقاده أن المقاومين انسحبوا من المكان. لكن على عكس توقعات العدو، وقع الجنود في كمينٍ جديد داخل النفق، حيث زُرعت عبوات مموهة، وعندما أدخل الجيش قوة إسناد إضافية اشتبك معها المقاومون وفجّروا عبوة بها، ثم فجروا النفق بعد الانسحاب منه٬ وأوقعوا أفراد القوة الإسرائيلية بين قتيل وجريح وأسير، كما استولوا على العتاد العسكري لعدد من الجنود.
والكمائن المركبة العبقرية في هذه المعركة لا تنتهي٬ فمن أزقة حي الصبرة في غزة شمالاً٬ إلى أحياء رفح جنوباً٬ نجحت المقاومة في تنفيذ العديد من الكمائن المركبة٬ أجهزت بها على قوات الاحتلال المتوغلة ببراعة شديدة٬ وأذاقتها أصنافاً من الألم والعذاب٬ وحاولت خلالها أسر جنود (عملية مدرسة الشوكة شرق رفح) تماماً كما حصل في معسكر جباليا٬ لكن الاحتلال فضّل قتل جنوده الأسرى على أن يتم أسرهم أحياء٬ ووضعهم بجانب عشرات الأسرى من الذين ظفرت المقاومة بهم في السابع من أكتوبر.
ربما لم يدرس قادة كتائب المقاومة وألويتها في غزة٬ بأعرق المعاهد والكليات العسكرية العالمية٬ لكنهم وبشهادة العدو قبل الصديق٬ أثبتوا أنهم رجال المرحلة٬ وأنهم يمتلكون قدرات عسكرية في إدارة المعارك البرية وتكتيكاتها ببراعة ودقة منقطعة النظير٬ بل أنهم يصنعون اليوم مدرستهم الخاصة في العلوم العسكرية ونظريات العقيدة القتالية٬ ستحتاج لسنوات من الدراسة المعمّقة من الباحثين٬ وستلهم أجيالاً قادمة من المقاتلين والثائرين.