مجتمع

الصدمة الثقافية بعد خيار العودة الطوعية

يونيو 22, 2025

الصدمة الثقافية بعد خيار العودة الطوعية

في الآونة الأخيرة، ومع انتشار مقاطع ساخرة تسلط الضوء على الارتباك الذي يعيشه العائدون من الغربة ومواجهة الحياة الاجتماعية مجدداً ولمّ الشمل مع العائلة الممتدة؛ بدأت تصلني بحكم عملي مستشارة أسرية تساؤلات و شهادات وتجارب شخصية تعبّر عن مشاعر معقدة تزامنت مع العودة. 

 

 

عبّر البعض عن مشاعر الذنب لأنه لم يشعر بالسعادة المنتظرة التي حلم بها وتخيلها بين أهله، وآخرون تملكهم قلق وارتياب غير مفسّر من فكرة العودة أصلاً، فيما شاركني البعض مشاعر الخجل من أنفسهم، وكأنهم فقدوا القدرة على الانتماء أو التمسك بهويتهم السابقة.

فما الذي يفسر هذا الانفصام الداخلي؟ وهل نحن فعلاً مسؤولون عن هذه الفجوة التي نشأت بيننا وبين أقرب الناس إلينا؟

 

 

الصدمة الثقافية العكسية رد فعل إنساني ليست فشلاً شخصياً 

 

ما يختبره العائدون إلى بلادهم ومجتمعاتهم الأصلية من مشاعر سلبية ومتناقضة بعد فترة من العيش في بلاد غريبة تحمل ثقافة مختلفة يُدعى “الصدمة الثقافية العكسية”، وهي نتاج طبيعي ورد فعل داخلي على تفاعل ثقافتين مختلفتين حتى لو كانت إحداهما مهيمنة وبذلنا جهدنا في الحفاظ عليها والتمسك بها.

 

 

يظن الكثيرون أن العودة إلى الوطن ستكون دافئة وكأنها لحظة رومنسية منتظرة ومليئة بالعواطف والمشاعر الجميلة، لكن الواقع أن العائد قد يشعر بالاغتراب أو عدم الراحة أو حتى قد يواجه الرفض، لكن لا يمكن اعتبار المشاعر الناتجة عن الصدمة الثقافية العكسية فشلاً شخصياً أو مسؤولية فردية، ويجب ألا نسمح لمشاعر الذنب والعار والخجل أن تسيطر علينا عندما نختبر هذه المشاعر.

 

 

من المسؤول عن هذه الفجوة؟

 

من المهم أن ندرك أن الأفكار والمشاعر والسلوكيات والقرارات لا تكون عشوائية ولا تظهر من فراغ  إنما هي نتاج تفاعل معقد بين عدة عوامل منها: العوامل البيولوجية كالجينات والهرمونات، والتنشئة الاجتماعية في البيئة الأسرية والمدرسة والمجتمع الأول، إضافة إلى التجارب السابقة والعوامل الثقافية كالقيم والعادات، والبيئة المحيطة والحالة الاقتصادية ومستوى الأمان والاستقرار، إضافة إلى العوامل النفسية الداخلية مثل أسلوب التفكير وتقدير الذات، وغيره من العوامل. 

 

 

لذلك لسنا بحاجة إلى تحديد مذنب أو مسؤول عن هذه المشاعر المعقدة بقدر ما نحن بحاجة لفهم المشاعر وتقبّلها والسماح لها بالتدفق بصورة طبيعية دون إنكار أو مقاومة.

 

 

لا تلغِ نفسك ولا تفرضها 

 

 تختلف طبيعية الصدام الثقافي العكسي باختلاف التجارب الفردية ومدى طول الاغتراب وعمق الاندماج في الثقافات الجديدة، وقد يظهر هذا الصدام في تفاصيل حياتية بسيطة كالتدخل في الشؤون الشخصية أو طرح  الأسئلة دون تحفظ، أو تقديم توجيهات بلباس “نصيحة” في بعض البيئات لكنها تُفهم في بيئات أخرى كاختراق مباشر للخصوصية.

 

 

وقد تمتد لتلامس قضايا أكثر عمقاً وحساسية، فبعض العائدين من الاغتراب يصطدمون بممارسات لم تعد مقبولة في وعيهم الجديد، وتتجاوز الخطوط الحمراء التي أعادوا رسمها، مثل الأساليب التربوية التي تعنّف الطفل أو الممارسات التي تهين المرأة بشكل علني وتحظى بقبول وتبرير ضمني في بعض المجتمعات. 

 

 

في خضم هذا الصدام، لا بد للعائد أن يجد توازناً دقيقاً بحيث لا يلغي نفسه وقيمه التي تبلورت نتيجة تجربته، وألا يحوّل هذه القيم إلى أدوات جلد ووصاية وتحقير واستعلاء على الأفراد الذين لم تمنحهم الحياة الفرصة لخوض ذات التجربة التي مر بها هو. 

 

 

هو تحد صعب لكنه ضروري لأن الصدام وفرض القيم بالقوة، بينما التغيير الحقيقي أو ما يسميه البعض “الإصلاح” هو عملية تراكمية تبدأ بإثارة الفضول ثم فتح أبواب الحوار وتقديم البدائل بطرق واعية تراعي الفوارق بعيداً عن الوقوع بفخ الاستعلاء الثقافي. 

 

 

من الفردانية إلى الجماعية: تحدي إعادة التشبيك 

 

من أبرز التحولات والتحديات التي تفرضها تجربة الغربة واللجوء الانتقال من بيئات تقدّس الترابط العائلي والتواصل الاجتماعي إلى مجتمعات تشجع على الفردانية والاستقلال الشخصي، وبعد سنوات طويلة قضاها المغترب في بلاد اللجوء يجد نفسه مجدداً أمام تحدٍ حقيقي في إعادة التشبيك، ويزداد الأمر تعقيداً لدى الجيل الثاني الذي لم يختبر أصلاً شكل الحياة الاجتماعية التقليدية في المجتمعات العربية بما فيها من التزامات وأعراف ودوائر اجتماعية متداخلة.

 

  

وهنا تتحول العلاقات الاجتماعية من كونها حالة صحية  تلبي حاجاتنا الفطرية للتواصل والانتماء إلى عبء نفسي وعاطفي يولد مشاعر الضغط، وربما رغبة في العزلة والانسحاب 

 

لكننا لسنا مضطرين للاختيار بين النقيضين: إما الذوبان في علاقات اجتماعية مرهقة أو الانعزال الكامل. 

 

ما نحتاجه هو تشكيل حالة تفاعلية جديدة وخيار ثالث متوازن يراعي احتياجاتنا النفسية ويحترم خصوصيتنا دون أن يقصي الآخرين أو يتجاهل قيمة الروابط الاجتماعية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع حدود شخصية بطريقة ناعمة ومحترمة وممارسة حقنا في الرفض دون قسوة أو عدائية، والموازنة بين الاحتياجات النفسية والتوقعات الاجتماعية من زيارات وتواصل ومشاركة في المناسبات.


 

العلاقات الاجتماعية بطبيعتها تبادلية لا يمكن أن نأخذ منها فقط دون أن نقدّم لها بالمقابل، ولو أن من حقنا أن نقدم ونشارك بما نستطيع بدون استنزاف وضغط مفرط، لكن البعض قد يحتمي خلف شعارات الفردانية ليبرر التقصير في العلاقات الاجتماعية. مثل الكثير من جوانب الحياة من الصعب أن تكون مثالية بالمطلق فالدعم يقابله الالتزام والمسؤولية.

 

 

العودة ليست مجرد عبور حدود جغرافية إنما تتضمن عبوراً داخلياً عميقاً يتطلب إعادة ترتيب الفوضى الداخلية ومصالحة مع الذات القديمة التي هجرناها والذات الجديدة المكتسبة، لأن خيار العودة وإن بدا ظاهرياً أمراً بسيطاً إلا أنه يحمل في طياته تعقيدات نفسية وثقافية تتجاوز مجرد تغيير المكان وتلامس جوهر الهوية والانتماء، وتتطلب محاولات التوفيق بين ما اكتسبناه هناك وما عدنا إليه هنا، ووسط كل هذا التداخل نحن بحاجة للسماح بالمشاعر بالعبور بدون مقاومة وأن نمنح أنفسنا فرصة لإعادة تشكيل علاقاتنا بذواتنا وبالآخرين دون أن نذوب أو نستعلي ودون أن نتخلى عن قيمنا أو نفرضها على الآخرين.

 

 

العودة ليست رجوعاً لما كنا عليه كما يتخيلها البعض إنما هي بداية رحلة جديدة من التفاوض بين الثقافات ننتقي من كل منها ما يتناسب مع قيمنا، ويتناغم مع وعينا وما أصبحنا عليه. 

شارك