مجتمع

الاغتراب العكسي.. غربة الوطن

أبريل 14, 2025

الاغتراب العكسي.. غربة الوطن

قد تختلف التجربة السورية عن تجربة الاغتراب التقليدية، فالكثير من السوريين لم يغادروا بأحلام واعدة، ولم يختاروا مغادرة البلاد، بل هُجِّروا قسرًا، أو فرّوا هربًا من موتٍ محتَّم، وحُرِموا من زيارة بلادهم لسنوات. وبالتالي، أخذت فكرة البعد عن الوطن بُعدًا عاطفيًا عميقًا. بينما في الغربة التقليدية، حين يغادر الفرد بمحض إرادته بحثًا عن حياة وفرص أفضل، لا ينظر إلى الوطن بالطريقة نفسها؛ فالبعد طوعي، وخيط العودة لم يُقطع، بل هو خيار متاح لا يحكمه الخوف من الظلم والاعتقال. أما المُهجَّر الذي اقتُلِع من جذوره، فعاش لوعة الحرمان وألم الحنين، ولم يكن البعد جغرافيًا فحسب، بل كان جُرحًا نازفًا ومعضلة وجودية وضياعًا في الانتماء والهوية.



لماذا يبدو الوطن في المخيلة أكثر دفئًا مما هو عليه في الواقع؟


حمل السوري في المهجر صورة مثالية مقدسة لوطنه، صورة كان يستحضرها كلما اشتدت الظروف أو في لحظات الفرح؛ صورة تُواسيه عندما يضيق به الحال، أو تجعله يشعر بالفخر والانتماء عند حاجته لذلك. هذه الصورة التي اختُزِنت لسنوات قد تدفعه اليوم، بعد تحرير البلاد من حكم الأسد المجرم، إلى اتخاذ قرار العودة بناءً على دوافع عاطفية جارفة، وتوق داخلي للانتماء، وبحث عن هوية ضائعة، لا على حسابات عقلانية واعية وقراءة حقيقية للواقع. هي صورة انتقائية متمنّاة، منبعها الفقد الشديد للوطن، كما يتذكر الإنسان كل ما هو جميل عن قريب فقَده.



السوري المهجَّر أصبح مُخيَّرًا بعد أن حُرِم من حرية الاختيار لأكثر من عقد من الزمن، وخيار العودة أصبح متاحًا بعد أن كان حلمًا بعيد المنال. لكن ما يغيب عن أذهان الكثير من المهجّرين أن سنوات الحرب الطويلة، والانهيار الاقتصادي، ونقص الموارد الأساسية، والفقر، والفقدان، والظلم الكبير، غيّرت ملامح الحياة وأولويات الناس، بل غُيِّرت هوية المجتمع نفسه. علينا أن ندرك هذه الحقيقة ونتقبلها كي نحمي أنفسنا من الصدمة، فالمغترب الذي قضى سنوات يحاول الحفاظ على هويته، أو يحاول إعادة بنائها، سيعود ليرى أنه لا ينتمي “لهناك” حيث أتى، ولا “لهنا” حيث كان. فهويّة بلاده لم تعد مألوفة. قد تكون هذه المشاعر ثقيلة وصادمة، فالغربة في الوطن أشدّ إيلامًا وأقسى من غربة المنفى. لكن علينا أن نقبل الحقيقة المطلقة: نحن أيضًا لم نعد كما كنا، وأن التغيّر ليس خيانة للهوية، ولا للمجتمع الذي تغيّر بدوره أيضًا.



لذلك من الضروري أن نكون واعين ومتقبّلين لهويتنا المركبة، هويتنا التي احتُفِظ بها من الماضي، والتي تشكّلت لاحقًا من تجاربنا وآلامنا وأحلامنا. هذه الهوية ليست عبئًا ولا عارًا، بل هي محرّك ودافع، وأحد مفاتيح المساهمة في بناء مجتمع متماسك متنوع يشبه آمالنا. وطن لم نحلم به فقط، بل قُوتِل لأجله.



العودة إلى بلاد منهكة ومدمرة تحفر في النفس أسىً وحزنًا عليها، لكن الارتباط بهذه البلاد حدّ التقمص يحوّل هذا الشعور إلى حزن وأسى عليك، وإن كنت في حال جيدة ماديًا ونفسيًا. ومن هذا الشرخ في نفسيتك تتسلل السلبية وتتراكم، فتبلغ حدّ التفكير في التعامل مع الناس وخيارات العمل والدراسة وأصدقائك وجيرانك الجدد ورفاق أولادك في المدرسة والجامعة. من الجيد أن تصحو من سُكرة ونشوة الانتصار وتحقق الحلم الكبير ووردية الحياة المشتهاة، لكن لا ينبغي أن تكون هذه الصحوة نابعة من اكتئاب وأسى، بل من عقلانية في تقدير الواقع وتوصيفه، وضبط التوقعات للتصرف بشكل أفضل وتدارك السيئ والصعب.



نحن أبناء تجربتين


مشاعر الغربة في الوطن بعد انقطاع طويل نابعة من تصادم الثقافات التي اشتُبِك معها، والمصاعب التي مُرَّ بها في بلاد الغربة، في المكان واللغة ونمط الحياة والحداثة، وتجريب القيم الإيجابية فعليًا لا قيميًا فقط، من رمي الأوساخ في المكان المخصص، إلى التعاطف والتضامن ومكافحة الفساد، وصولًا إلى المواطنة. أنت شخص جديد، هجين، انقسم بين مكانين: واحد مُلزَم به، وآخر مرتبط به، وبين تجربتين: واحدة قديمة وأخرى جديدة. شخص جديد يعني أنك لم تعد إلى نسختك الأولى، بل أنت نسخة ثالثة تحمل قيمًا جديدة انتُقِيت بما يناسبها وغيّرتها السنوات الأخيرة. امتُلكت من هذه التجربة رؤية نقدية، وخُبِّرت مهارات تكيّف وإبداع، وكذلك مهارات تقبّل واندماج، لأنك تعرف معنى أن تكون من هنا ومن هناك، وأن تبني الجسور بين هويتين دون انسلاخ، وهذا يساعد في بناء وطن للجميع حقًا.



اختلاف يُثري لا يُفرّق


كثيرًا ما يُنظر إلى الاختلاف والتنوع على أنه تهديد للمجتمع، وكأن التماسك لا يتحقق إلا بالتشابه. في سوريا القديمة، كان التنوع حاضرًا، وكان مصدر غنى لا انقسام. لكن اليوم، بات التحدي أكبر، إذ حُملت ظروف الحرب والهجرة – سواء الداخلية أو الخارجية – إلى عوالم وتجارب شديدة التباين.



الاختلاف لم يعد مقتصرًا على الطائفة أو الدين أو المنطقة كما في السابق، بل أصبح جزءًا من العائلة الواحدة. كثير من العائلات السورية اختلفت تجارب أفرادها، منهم من عاش في مخيم، ومن نشأ في أوروبا، ومن بقي في مدينته أو قريته، وكلٌّ منهم يحمل لغة ولهجة وخبرة مختلفة تمامًا عن الآخر.



شُوهِد هذا التباين عن قرب عندما زُورَت سوريا في العيد الأول بعد تحرير البلاد، عندما اجتمع الأبناء مع أقاربهم. كان الأطفال يلعبون بلهجات متعددة، وبعضهم يستخدم كلمات بلغة مختلفة تمامًا. الطفل الذي نشأ في تركيا قدّم دروسًا مجانية في اللغة التركية لبقية الأطفال، وكان الجميع سعداء بذلك، بينما كان ابن عمه الذي كبر نازحًا في إدلب أكثر خشونة وواقعية في حديثه وحركاته وأولوياته وسلوكه.



في النموذج المصغّر الذي جرى تأمله مع أطفال العائلة، لم يكن الاختلاف مدعاة للفرقة أو الحساسية، بل كان فرصة عظيمة. هذا التنوع داخل البيت الواحد هو بذرة نادرة يمكن أن يُزرع منها وعيٌ جديد، فقط علينا تقبّله بدلًا من محاربته أو محاولة توحيده قسرًا. تخيّل لو أن جميع قطع الأحجية “البازل” متشابهة… هل كانت ستشكّل لوحة؟


الاختلاف هو ما يصنع الصورة المتماسكة، علينا فقط أن نعرف كيف نضع كل قطعة في مكانها الصحيح.

شارك

مقالات ذات صلة