سياسة

هياج الجمهور على هامش المعركة

ديسمبر 3, 2024

هياج الجمهور على هامش المعركة

لا تبدأ الأمور من حيث تبدو عليه، ولا تقف عنده كذلك، إذ لا موقف ينتجه العدَم، ولا يذهب غالبًا بعد حدوثه للعدمِ كذلك، هذا امتدادٌ لسابقاته وتأسيس لقادمه كذلك، وانحيازات “الجمهور” على الجانبينِ، لا موضوعيًّا فهذه عادة الجماهير (أقصد أولئك المتفرّجون الذين يكتفون بالصيحات ابتهاجًا أو استياءً دعمًا لهذا الفريق أو ذاك، دون أن يخلو الأمر من بعض التحليلات والتصويبات والنقد) تحرّك غالبها العاطفة، وإن امتلك بعض تكويناتها وعيًا بالحاصل وفهمًا لتعقيدات معطياته.


وكما لم تبدأ الحكاية الفلسطينيّة في السابع من أكتوبر، لم تبدأ الحكاية السوريّة في السابع والعشرين من نوفمبر، لم يبدأ شيءٌ في هذه اللحظة على أيّ صعيد، لا بين الجبهات المتقاتلة، ولا الداعمين الدوليين، ولا المستفيدين وراء كلّ جبهة ومن نتائج كلّ معركة، ولا حتى تفتّت سوريا الذي لا يجرى أكثر من إعادة ترسيم حدوده بين ذات الأطراف التي فتّته قديمًا.


ودون العودة طويلاً للوراء؛ بدأت الحكاية في فصلها الأخير، الممتدّ على وجهٍ ما لليوم أثرًا على الأقل، بأنّ شعبًا ثار في وجه حاكمه (الطائفيّ المجرم) بهتافاته وأغنياته فواجهه الطاغيةُ -كما عادة الطغاة الأغبياء- تصاعدًا حتى بدأ في قتالهم كعدوّ، لا على الأرض بالعساكر والعصيّ وقنابل الغاز، ولا حتى بالرصاص الذي يسقطُ واحدًا فواحد، إنّما بالطائرات والبراميل المتفجّرة.

 

لعلّ هذا مبتدأ تلك اللحظة التي نراها الآن، ويتخبّط غالبنا تجاهها مشاعرًا وأفكارًا، لا بعد معرفةٍ للحاصل فيها، إنّما انطلاقًا من انفعالات ماضويّة واحتقانات شعوريّة مكايدةٌ أو انتقاميّة في غالبها، بين معسكرات “إسلامويّة” و ” دولجيّة” و “ثورجيّة” لكلٍّ تاريخ صراعه مع الآخر، الذي ينفّثُه الآن في معركةٍ تخصّ أمثاله/أشباهه بميادين أخرى.


إذ يبرزُ -كالعادة المكررّة المملّة، والمحبطة كذلك، لكنّها الكاشفة أيضًا- على الجانب الآخر (بعيدًا عن نسبة التكوين والسيطرة والتحريك) جيشٌ لا يقلّ طائفيّة، وتاريخُ بعض مكوّناته -جماعات أو أفراد- مرعبٌ هو الآخر (طالما اعتبرتُ الثورة، تلك التي كانت وانتهت، أو كانت وتاهت طرفٌ ثالث في العراك الأزالي بين طرفي الصراع الآخرين)، لكنّ أحدًا لا يجرؤ على إنكار حقّ الكلّ بعيدًا عمّن هم في الردّ على أي صورة في معركتهم مع السلطة وحلفائها.

 

وهو ما يجعل مثلي يتعامل مع خطابات “استعادة قوى الثورة لحلب” مثلاً، باعتبارها دعاية رومانسيّة تغرضُ لاستمالة جمهور أو تحييد آخر، لا باعتباره وصفًا للواقع على الأرض، خاصّة ولا أعرفُ لـ “غرفة العمليّات” مشروعًا ثوريًّا أو رؤية للتغيير باستثناء إسقاط النظام، والتخلّص من مشروعه (الطائفي الشيعي) وإقامة مشروع سنّي بديل، وحول هذا الكثير من الآمال الجميلة حول حياة الناس وأمنهم ومستقبلهم.


يبدو الحاصل منطقيًّا تمامًا، معطيات الواقع كلّها تقول بقابليّته للحدوث، سواء في حال سلطة الأسد ومراكز العمليات المعسكرات وأماكن تجمّع القادة والمصانع العسكرية وخلافه وما تعرّضت له على يد العدوّ بالتزامن مع الإبادة في فلسطين وثمّ انتقالها للبنان، لقطع طريق الإمداد ومحاصرة المقاومة كما استهداف قادتها الموجود بعضهم على الأراضي السوريّة، أو لإيران المتورّطة في مستنقعات لا منتهية غالب مآلاتها الاستنزاف إن لم تكن الخسارة حتى الآن، وما تعرّضت له هي شخصيًّا على أرضها وفي مستوى القيادة عسكريًّا واستخباراتيًّا، وروسيا المنهكة في أوكرانيا والغير مرتاحة بعض الشيء على ما يبدو لأداء بشّار في غير موضع.


هذه ظروف ملائمة تمامًا لحلحلة الوضع من قبل الطرف الفاعل في اللحظة ليتقدّم على هذه الصورة، بأقلّ احتمال مقاومة، بل وانسحاب سوري/رسمي آمن، دون أن تنفي هذه الملائمة أو تثبتُ الوجود الخارجيّ طرفًا أصيلاً، فتركيا طرف صراع في غرف العمليّات كما في التسليح والتمويل وغيرهما، تمامًا كما إيران وروسيا على الجانب الأسديّ، وقد لا يكون العدوّ بعيدًا عن التحرّك الأخير ولو استفادةً من مساره ومصيرهومحاولة توجيه الحال لما يضمن له قطع طريق الإمداد تمامًا خطوة تجاه إنهاء حزبالله على صورته القديمة، دون أن يتورّط في مفاجآت غير محسوبة مستقبلاً من هذا الفصيل أو ذاك.


ستكشف الأشياء عن القادم، وسيبقى الجمهور كثير الصياح، والذي لا يشكّل رقمًا في أيّ معادلة، خاصةً معادلته هو الداخليّة التي انهزم فيها فتفرّغ للتشجيع على جانبي الدائر في كل معركة، تمامًا كعواجيز الفرح الذين لا يقولون ولا يسكتون، ولا حتى يحاولون المعرفة، إنّما يكتفون بجهلهم، وسابق انحيازاتٍ تشبه ما كانوا عليه قديمًا كمبرّرات وحيدة للوجود.



شارك

مقالات ذات صلة