سياسة
في مصر، وفي يوم قاتم من شهر يوليو ٢٠١٣، علم من عايشه أيًا كان موقفه، مؤيدًا كان أو معارضًا لما حدث آنذاك، أن البلاد دخلت مرحلة جديدة، وأن البيان الذي صدر يومها، وكان وراءه ذاك الرجل العسكري الذي وقف مزهوًا منتشيًا يومها، بعد أن كان يقف عادة بشكل خجول لدرجة الانكسار، سيكون طلقة في رأس تلك الحُمي الجماعية التي أصابت ملايين المصريين ذات ثلاثاء عام ٢٠١١، فخرجوا للشوارع هاتفين “عيش حرية عدالة اجتماعية”.. أشياء لم يجربوها في حياتهم، قرأوا عنها وربما سمعوا وعودًا بها، لكنهم لم يعايشوها قط. بيان الانقلاب البغيض الصادر يومها كان بمثابة رصاصة اخترقت فؤاد يوم الثورة الأول، وتركته وحيدا ينزف.
وإضافة لهذا النزف المجازي، نزف عشرات آلاف المصريين وتشتتوا بين قتيل وجريح ومُعتقل ومنفي، في عقاب جماعي لهم على المشاركة في “جنون الثورة” قبل عامين ونيف من بيان “انقلاب الحال”، وعودة العسكر لحكم البلاد.
في القاهرة قبل الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١ كان هناك رئيس، ذلك العسكري الذي عفا عليه الزمن وقاد البلاد ل٣٠ عامًا قاحلة، رافقه حكام آخرون في الأقطار المجاورة، كان المشترك بينهم أنهم جعلوا بلادهم تنزف لفترات طويلة، سرقوا نهبوا وقتلوا واغتصبوا، أدمنوا الهزائم الخارجية والفساد الداخلي، كانوا الجيل المؤسس للمرض، أشاعوا الجهل، وجعلوا أرخص ما فيها ساكنيها، وهذا ما دفع أصحاب البلاد للتحرك، في تونس، في مصر، ليبيا، اليمن، وفي سوريا.
هذه الهزات الأرضية في العواصم العربية أسقطت تماثيل حكامها واحدًا تلو الآخر، ومن لم يسقطه الهتاف، أسقطه الدم، ومن لم يسقطه الدم، أسقطه السيف.
عايشنا الثنائيات التي قيلت لنا كثيرًا عن الدم والسيف، شاهدناها في مصر في الثاني من فبراير ٢٠١١. كان جملًا وسيفًا وخيلًا بمعنى حرفي، ووقف الدم أمامهم فأعاق تقدُّمها بالصدر العاري والحِجارة وبِرك الدماء التي نزفت فيما عُرف لاحقا بـ”معركة الجمل”.
أما في اليمن، في الـ١٨ من مارس ٢٠١١، تكرر المشهد، وهاجم القناصة ساحة التغيير وقتلوا ٢٥ متظاهرًا وأصابوا العشرات.
وفي ليبيا القذافي أيضًا، فتحت قواته النار على المتظاهرين بشكل مباشر، فقتلت المئات في أيام معدودة.
بنهاية الجولة الأولى، اضطر السيف أن يركع ولو شكليًا، بن علي هرب ولم يتحمل الصدمة الأولى، مبارك اجتمعت عليه الأسباب فاضطر للتنحي، بينما حاز القذافي على المصير الأقسى من بين الجيل المؤسس الذين سقطوا في الموجة الأولى لـ ٢٠١١، ولم يكن حال علي صالح اليمني أفضل منه.
في المقابل، اجتمعت التركيبة السياسية والطائفية في سوريا، إلى جانب التحالفات الخارجية ووضع الإقليم، فجعلت حاكمها يصمد لمدة أطول.
في البداية جرب بشّار الأسد ما فعله رفاقه في الجولة الأولى من وصم الثوار بأنهم خونة ومارقون، فزاد عددهم، جرب إغفالهم ومحوهم من الصورة، وخرج تلفزيونه الرسمي ليقول إن المظاهرات التي تعم البلاد خرجت للاحتفال بالمطر، فزادوا أكثر. ولما سخر منه الناس، تحول سريعًا للخطوة التالية، وأطلق الرصاص.
دافع أصحاب البلاد عن صوتهم في أحيائهم، ومع انشقاق جيشه، استخدم كل ترسانته العسكرية، رصاصًا وبراميل وما بينهما، فجاءه بالدبابات، وبالمدفعية، وبعد أن كاد يسقط في منتصف ٢٠١٣ بعد وصول الثوار المجانين إلى العاصمة، طلب الدعم الخارجي، وزكّى نار الطائفية لكي ينجو.
لصورة أوسع عن اللقطة التي تسقط فيها البراميل المتفجرة على المنازل، أعطى القاتل السوري السياق المناسب لطغاة مرحلة ما بعد ٢٠١١ لكي يرتكبوا مجازرهم، فلِمَ لا يذبح هذا العسكري المصري صاحب البيان في أول المقال، بعد شهر واحد من بيانه، قرابة ١٥٠٠ مصري أعزل في ٦ ساعات، طالما أن رفيقه السوري تخطى كل الحدود بلا رادع وبلا قيود.
وبالفعل، نجح رهان الجنرال المصري، العالم لم يهتم، بل اكتفى بإصدار بعض بيانات الإدانة، وتوالت بيانات التأييد العربية من نادي الرؤساء والملوك، لينتصر السيف بعد فناء الدم وأصحابه وتستتب البلاد، ويحتفل المصري مع السوري بالنجاة من هؤلاء الثوار المارقين.
في ديسمبر، بعد ١٤ عامًا من أول هتاف للحرية في سوريا، وقبل شهر واحد من ذكرى الشهر الذي وُعد المصريين فيه بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية عام ٢٠١١، ومن حيث لا يحتسب أحد، سقط الناجي الأخير من الجيل الذي ضربته موجات الجنون العربي قبل عقد من الزمان.
وكما لو كان خيال مآتة، لم يقاوم، لم يحاول استمالة أحد داخليًا، وقيل لاحقًا إنه حاول استمالة حلفائه الروس والإيرانيين، لكنهم علموا أن الأمر لا يستحق العناء هذه المرة.
حاول حليفه الخليجي إنقاذه، لكن الزمن والسنن الكونية كانا أسرع، فسقط، ولم يجد في نفسه الجرأة على الخروج في خطاب باكيًا لشعبه، أو حتى غاضبًا ومحذرًا من المؤامرة الداخلية الخارجية التي تكاد تفتك به. كذلك لم يكلف نفسه عناء التفاوض أو محاولة الانسحاب للساحل السوري، حيث معقله التاريخي، وكشخص جبان، اكتفى بالهرب.
رغم أن رفاقه في القمة العربية الأخيرة التي كانت وللعجب قبل شهرين فقط، اعتبروه مثالًا حيًا على كيفية النجاة بأعجوبة من “ثورات المجانين”، وعدم الاكتراث بالإنسانية والمواثيق الدولية وهذه “الترهات” التي لا تساوي الحبر الذي تُكتب به.
ربما سيرتعد بعضهم الآن، فقد سقط قدوتهم ورمزهم، واتضح أن الوحش الذي كانوا يخوفون به شعوبهم، محض وحش من ورق.
آخيرًا، سقط آل الأسد بمعتقلاتهم ودباباتهم وبراميلهم. سيتلفتون ما تبقى من أعمارهم أثناء سيرهم في شوارع أوروبا التي لجأوا لها، أو ربما لن يخرجوا للشوارع بعد اليوم، لأن الشوارع ستُذكرهم ببداية كل شيء، يوم خرج المئات في درعا محتجين على اعتقال وتعذيب أطفال لأنهم كتبوا عبارات تطالب بإسقاط الأسد وعائلته.
هتف المئات يومها بكلمات جديدة لم يفهموها، عن الحرية والأبد، قبل أن ينتزعوا ما أرادوا، “غصبًا” عن الأسد.