سياسة
في تحوّل دراماتيكي لم يكن متوقعًا، انهار نظام الرئيس السوري بشار الأسد خلال عطلة نهاية الأسبوع تحت وطأة هجوم كاسح شنّته قوات المعارضة على مدينة حلب، ما أسفر عن سقوط العاصمة دمشق في غضون أيام. هذا السقوط المفاجئ يضع نهاية لحكم استمر لأكثر من 13 عامًا منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في خضم موجات الربيع العربي.
لقد مثّل نظام الأسد بالنسبة لروسيا حصنًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط، ليس فقط لأسباب سياسية، بل عسكرية ولوجستية أيضًا. فموسكو، التي كانت الحليف العسكري الأقوى للنظام السوري، دفعت بثقلها العسكري الكامل في ساحة المعركة، معتمدة على الضربات الجوية والدعم الاستخباراتي والقوات الخاصة. لكن مع انهيار النظام، اضطرت موسكو إلى التراجع خطوة إلى الخلف، مكتفية بمراقبة المشهد من بعيد وهي ترى دمشق تسقط في أيدي المعارضة، وسط حالة من الارتباك على المستوى السياسي والعسكري.
ماذا يعني سقوط دمشق لروسيا في أفريقيا؟
بعيدًا عن الشام، تتجه الأنظار نحو أفريقيا، حيث تعتبر القاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس ركيزة أساسية لعمليات موسكو في المنطقة. فعلى مدى سنوات، ظلت طرطوس بمثابة البوابة البحرية الروسية إلى البحر الأبيض المتوسط، والنقطة اللوجستية التي تربط بين روسيا وأفريقيا، لا سيما غربها وشمالها، حيث تنشط موسكو بملفات حيوية مثل ليبيا ومنطقة الساحل.
هذه القاعدة لم تكن مجرد منشأة عسكرية، بل كانت المركز الحيوي الذي تنطلق منه عمليات نقل المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا والساحل، حيث رسخت موسكو وجودًا استراتيجيًا من خلال قوات “فاغنر” المنتشرة في مناطق النزاع. ومن طرطوس، عبر البحر، شقت الأسلحة الروسية طريقها إلى أفريقيا، بينما يعود المرتزقة عبر نفس الممر بعد انتهاء مهامهم، ليشكل هذا المسار اللوجستي “شريانًا استراتيجيًا” مكّن روسيا من التحرك بمرونة على الساحة الأفريقية.
لكن مع سقوط الأسد، يصبح مصير هذه القاعدة في مهب الريح. فطرطوس ليست مجرد قاعدة عسكرية، بل هي العقدة المركزية في خريطة النفوذ الروسي البحري. إذا ما فقدت روسيا السيطرة عليها، فإن ذلك يعني اضطرار موسكو إلى البحث عن بدائل أخرى أكثر كلفة، وهو سيناريو سيُضعف قدراتها اللوجستية بشكل ملحوظ.
إذن، سقوط نظام بشار الأسد أدخل الحسابات الروسية في مأزق معقد، حيث برزت احتمالية أن تقوم الحكومة الجديدة في سوريا بإلغاء حق الوصول الروسي إلى القاعدة، إما بالكامل أو على الأقل تقييده بشكل كبير، كخطوة انتقامية لدور موسكو في دعم نظام الأسد على مدى أكثر من عقد.
إن حرمان روسيا من قاعدة طرطوس ليس مجرد تغيير في المواقع، بل هو بمثابة هزة استراتيجية. أي اضطراب في هذا المسار يعني زيادة في التكاليف، تأخيرات في النقل، وعجزًا في تزويد قوات “فاغنر” بالمعدات اللازمة لدعم الحكومات الحليفة أو المشاركة في النزاعات. روسيا التي لطالما قدمت نفسها كقوة “لا تُهزم” في أفريقيا، قد تجد نفسها مضطرة إلى إعادة رسم خريطة وجودها بالكامل إذا ما سُحب بساط طرطوس من تحت أقدامها.
ضربة لمصداقية روسيا في إفريقيا
تتزايد التساؤلات في العواصم الأفريقية حول مصداقية روسيا كحليف استراتيجي، وذلك بعد السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا، الحدث الذي اعتبره مراقبون بمثابة ضربة قوية لهيبة موسكو وقدرتها على الوفاء بتعهداتها الأمنية. لقد اعتمدت روسيا في السنوات الأخيرة على الترويج لنفسها كلاعب موثوق قادر على توفير الدعم العسكري والحماية الأمنية، خاصة في منطقة الساحل وأجزاء أخرى من أفريقيا.
ومن خلال ما يُعرف الآن بـ”فيلق أفريقيا” (الاسم الجديد لفاغنر)، قدمت روسيا حزم دعم متكاملة للعديد من الأنظمة الأفريقية، بما في ذلك أنظمة الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، فضلاً عن النظام في جمهورية أفريقيا الوسطى. ومع ذلك، فإن انهيار نظام الأسد، الذي دعمته روسيا عسكريًا لأكثر من عقد، أرسل إشارات “مثيرة للقلق”، حيث بات واضحًا أن الالتزامات الروسية الأمنية قد لا تكون موثوقة كليًا كما روجّتْ ذلك حلفاؤها الأفارقة.
وإن حكومات مثل مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم الروسي في مواجهة الجماعات المسلحة المتمردة، ولمقايضة الضغط الغربي، قد تبدأ في إعادة التفكير في مدى “الاعتماد الكلي” على موسكو. وإن انشغال الكرملين بالحرب في أوكرانيا قد حدّ بالفعل من قدرته على التحرك بحرية في مناطق أخرى، ومع خسارة قاعدة نفوذ رئيسية مثل سوريا، قد يتفاقم هذا الانكشاف.
والاستنتاجات التي تلوح في الأفق في دوائر الحكم الأفريقية راهنًا، هي أن على الشركاء الحاليين والمحتملين لروسيا أن يعيدوا تقييم رهاناتهم؛ فالرهان على موسكو بوصفها حليفًا دائمًا لم يعد مضمونًا، وربما يكون من الأفضل البحث عن دعم بديل في أماكن أخرى.
الخيار البديل
تبقى ليبيا الخيار الأكثر واقعية بالنسبة لروسيا لتعويض خسارة قاعدة طرطوس، إلا أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر الأمنية والاعتبارات السياسية. فقد لجأت موسكو في السنوات الأخيرة إلى الاستفادة من ميناء طبرق وقاعدة الخادم الجوية، إلى جانب قواعد عسكرية أخرى في المناطق الخاضعة لسيطرة الجنرال خليفة حفتر، الذي يهيمن على شرق ليبيا.
هذا الترتيب، رغم أهميته، ليس مضمون الاستمرارية، لأن سيطرة روسيا على هذه المواقع تخضع لمزاج حفتر نفسه. فالجنرال البالغ من العمر 81 عامًا يواجه معادلة معقدة، إذ يتعين عليه الموازنة بين الاستفادة من الدعم الروسي، وفي الوقت نفسه، مراعاة الضغوط الغربية، ولا سيما من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويرى المحللون أن حفتر، رغم استفادته من الدعم الروسي العسكري والاستخباراتي، يبقى براغماتيًا في تعاملاته مع القوى الدولية، حيث يسعى دائمًا إلى تحقيق توازن بين القوى المتصارعة على الساحة الليبية. وهذا التوازن يجعل الترتيبات الروسية في ليبيا هشة وغير مستقرة.
فبخلاف قاعدة طرطوس، التي تسيطر عليها روسيا سيطرة شبه مطلقة، فإن وجودها في ليبيا مرهون بتفاهمات سياسية قد تنقلب في أي لحظة. ووفقاً لهذا السياق، فإن قاعدة الخادم الجوية وميناء طبرق قد يكونان بمثابة “ملاذ مؤقت” للوجود الروسي في البحر المتوسط، لكنه ليس البديل الاستراتيجي الذي يمكن لموسكو أن تعوّل عليه في عملياتها العسكرية واللوجستية نحو أفريقيا.
عدا ليبيا، قد تجد موسكو نفسها تحت ضغط مكثف للبحث عن شريك أفريقي يمنحها “موطئ قدم” بحري، وهنا يبرز احتمال التوجه نحو إريتريا كبديل ممكن. ولكن هذا السيناريو محفوف بالتحديات، فإن كانت ليبيا لا تزال ساحة معركة جيوسياسية، فإن إريتريا ليست شريكًا مضمونًا بالنظر إلى تذبذب مواقفها الإقليمية.
وقد تحاول روسيا التوجه إلى بعض الدول الحليفة في غرب أفريقيا، مثل مالي وبوركينا فاسو، لكنها ستجد صعوبة في الحصول على شريك يمنحها قاعدة بحرية. فلا مالي ولا بوركينا فاسو تمتلكان سواحل بحرية، مما يعقّد مهمة موسكو في إعادة تشكيل قواعدها اللوجستية.
هل تُبقي روسيا على خيوط اللعبة في أفريقيا؟
لكن في المقابل، لا يبدو أن روسيا بصدد الانسحاب من الساحة الأفريقية. بل على العكس، ستعمل موسكو على تعزيز وجودها في أفريقيا، وخاصة في الدول التي تعتبرها “أصولًا استراتيجية” مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. بل يمكن القول بأنه بسبب الضربة التي تلقتها روسيا بفقدان نظام الأسد، فإنها ستضاعف الجهود للحفاظ على مواقعها في أفريقيا، لا سيما في منطقة الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تستثمر بعمق في الرهانات الجيوسياسية لتغيير النظام العالمي إلى متعدد الأقطاب، إلى جانب تقديم الدعم العسكري الذي عزز من سمعتها الدولية.
وغالبًا، ستحاول الكرملين التخفيف من وطأة هذه الضربة عبر تعزيز الخطاب السياسي والدبلوماسي، مع الاستمرار في إرسال رسائل تطمين للشركاء الأفارقة. وربما سيكون هذا التوجه مدعومًا بزيارات رفيعة المستوى يقوم بها المسؤولون الروس إلى أفريقيا، إلى جانب مواصلة المشاريع الاقتصادية، وخاصة في قطاعات التعدين والطاقة والاتصالات، مما يرسخ التعاون في أبعاد تتجاوز الجانب الأمني البحت.
اتجاهات الحلفاء الأفارقة: تنويع الشراكات
مع تزايد المخاوف بشأن قدرة روسيا على الوفاء بوعودها الأمنية، يبدو أن بعض الحلفاء الأفارقة بدأوا في تنويع خياراتهم بالفعل. تشير تقارير حديثة إلى أن حكومة مالي، التي تعتمد بشكل كبير على موسكو في مكافحة التمرد، بدأت في البحث عن بدائل. ويُشاع أن باماكو تواصلت مع شركة أمنية تركية خاصة لتدريب قواتها، وهي خطوة تعكس اتجاهاً جديداً نحو تنويع الحلفاء العسكريين.
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، بدا أن الرئيس فوستين أرشانج تواديرا يعيد حساباته، حيث سعى إلى تحسين العلاقات مع فرنسا، وهو تحول مفاجئ في ظل سنوات من التوتر مع باريس. ففي يونيو/حزيران، وافقت فرنسا على استئناف المساعدات المالية لجمهورية أفريقيا الوسطى، وهي خطوة اعتبرها كثيرون إشارة إلى أن تواديرا يسعى لتخفيف اعتماده على الدعم الروسي، خاصة مع عدم قدرة موسكو على سد الفجوة المالية التي تحتاجها حكومته.
رسائل لروسيا وحلفائها في أفريقيا
ختامًا، إن سقوط الأسد لا يعني فقط نهاية نظام سياسي في الشرق الأوسط، بل قد يكون بداية لانكماش النفوذ الروسي في أفريقيا. لقد كانت طرطوس هي البوابة التي ربطت موسكو بالعواصم الأفريقية، ومع خروج هذا الميناء من المعادلة، ستفقد روسيا مركزًا محوريًا يمدها بالحيوية العسكرية والدبلوماسية.
وفي حال فقدت روسيا القدرة على استخدام طرطوس، فقد تكون مضطرة إلى الانسحاب التدريجي من ليبيا، كما ستجد نفسها عاجزة عن دعم شركائها العسكريين في منطقة الساحل. وبدون هذه القاعدة، ستتعقد مهمة موسكو في الحفاظ على شبكتها اللوجستية بين أوروبا وأفريقيا، وستجد نفسها في موقف ضعيف أمام المنافسة الغربية، وخاصة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا، اللتين قد تستغلان هذا الفراغ لصالحهما.
بكل بساطة، إذا كان سقوط الأسد يعني نهاية عصر سياسي في سوريا، فإن فقدان طرطوس يعني نهاية شريان الحياة الروسي الممتد إلى أفريقيا كما هو معهود. ما سيُضعف قبضة موسكو على الملفات الساخنة في الساحل وشمال أفريقيا، وربما يفتح المجال أمام قوى أخرى لإعادة التموضع في هذه الساحات الاستراتيجية.
لكن يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن لروسيا استعادة ثقة شركائها الأفارقة؟ يرى المراقبون أن هذا الأمر مرهون بقدرة موسكو على إثبات أنها لا تزال قادرة على تقديم “ضمانات أمنية وعسكرية” في منطقة الساحل في مواجهة الحركات الإرهابية والتنظيمات المسلحة، رغم خسارة نظام الأسد. بالنسبة لحكومات مثل مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى، فإن الأولوية الآن هي البحث عن شراكات جديدة أكثر استقرارًا ومرونة، بعيدًا عن الارتهان لقوة واحدة.
وفي النهاية، يظل الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذا المشهد المعقد، هو أن التحالفات القائمة على الوعود الأمنية وحدها ليست كافية. وكما أن موسكو خسرت حليفًا استراتيجياً في سوريا، فإن مستقبل وجودها في أفريقيا مرهون بقدرتها على تكييف استراتيجياتها مع متغيرات سريعة على الأرض.