سياسة
إقليم أرض الصومال، الذي يُعرف باستقلاله الفعلي رغم غياب الاعتراف الدولي، بات في قلب عاصفة إقليمية متفاقمة. ومع انطلاق الانتخابات الرئاسية في 13 نوفمبر الجاري، شهد الإقليم توترات هي الأعلى منذ سنوات، وسط مخاوف من اندلاع صراعات داخلية أو إقليمية.
تُدار أرض الصومال حاليًا من قبل حزب “كولميه”، الذي يقوده موسى عبدي بيهي منذ توليه الرئاسة في عام 2017. وقد بسط الحزب هيمنته على الساحة السياسية منذ عام 2010، بينما يقف حزب المعارضة الرئيسي، وداني، بقيادة عبد الرحمن محمد عبد الله (المعروف أيضًا بسيرو/إيرو)، كمنافس قوي يسعى لإحداث تغيير جذري في المشهد السياسي.
استراتيجية حزب وداني الدبلوماسية اكتسبت زخمًا من خلال تحالفه مع تحالف العدالة والتنمية، وهو كيان سياسي شاب لا يحمل الصفة الرسمية كحزب، حيث ينص دستور أرض الصومال على تحديد عدد الأحزاب الرسمية بثلاثة فقط. هذا التحالف، الذي يضم سياسيين ذوي خبرة، يهدف إلى إزاحة الحزب الثالث الحالي، حزب العدالة والرفاهية، من الساحة السياسية.
يحظى تحالف العدالة والتنمية بدعم كبير في المناطق الشرقية المضطربة، التي عانت من العنف والتهميش في السنوات الأخيرة. ويعد التحالف بتمثيل أفضل لهذه المناطق وعشائرها في الحكومة إذا نجح حزب وداني في الوصول إلى السلطة.
كان التنافس محمومًا بين حزب “كولميه” الحاكم بقيادة بيهي وحزب المعارضة “وداني” بقيادة عبد الرحمن سيرو. وقد شهدت الانتخابات منعطفًا دراماتيكيًا عندما أعلن نائب رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن سايليتشي، تخليه عن دعم بيهي لصالح سيرو، متهمًا الرئيس المنتهية ولايته بنقض الالتزامات وتعثر إدارته. وأسفرت النتائج عن فوز سيرو بنسبة 64%، مقابل 35% لبيهي، لتبدأ مرحلة جديدة من الترقب حول توجهات الحكومة المقبلة.
في ظل رئاسة موسى بيهي عبدي، الذي تسلّم السلطة في 2017، لفت الإقليم الأنظار الإقليمية والدولية كجزء من المنافسة الجيوسياسية حول البحر الأحمر، الممر البحري الأكثر استراتيجية. وقد جاءت هذه الانتخابات بعد عام كامل من التوترات الإقليمية المتصاعدة إثر مذكرة تفاهم مثيرة للجدل وقّعتها حكومة بيهي مع إثيوبيا. تضمنت الاتفاقية تأجير شريط ساحلي لإثيوبيا لإنشاء قاعدة بحرية مقابل الاعتراف الدبلوماسي بأرض الصومال، ما أثار غضب مقديشو التي ما زالت تعتبر الإقليم جزءًا من أراضيها.
مذكرة التفاهم مع إثيوبيا: قنبلة موقوتة
لم تكن الانتخابات حدثًا محليًا فحسب، بل انعكست تداعياتها على الإقليم بأسره. حيث جاءت الانتخابات بعد 11 شهرًا من توقيع مذكرة تفاهم مثيرة للجدل بين أرض الصومال وإثيوبيا. الاتفاقية تضمنت منح إثيوبيا حق استخدام شريط ساحلي لإنشاء قاعدة بحرية مقابل الاعتراف الدبلوماسي بالإقليم. وخصوصاً في أعقاب مذكرة التفاهم التي أبرمتها إثيوبيا مع حكومة موسى بيحي عبدي في يناير/كانون الثاني الماضي. نص الاتفاق على اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال كدولة مستقلة مقابل منحها عقد إيجار طويل الأجل لإنشاء قاعدة بحرية على شريط ساحلي استراتيجي.
كان الرئيس المنتهية ولايته موسى بيحي يراهن بشكل كبير على استثمار الاتفاق مع إثيوبيا كورقة ضغط سياسية تعيد انتخاب حزبه إلى الرئاسة، وهو هدف طال انتظاره منذ ثلاثة عقود. إذ ارتأى أنصاره أن تحركاته الخارجية كانت خطوة جريئة لانتزاع مكانة دبلوماسية طالما حلمت بها أرض الصومال. لكن التوترات التي أشعلها الاتفاق مع مقديشو، التي تعتبر أرض الصومال جزءاً لا يتجزأ من سيادتها، وضعت هذا المشروع في مهب الريح.
ردت مقديشو بقوة على الاتفاقية من خلال تعزيز تحالفاتها الإقليمية مع مصر وإريتريا، في خطوة تهدف إلى الضغط على إثيوبيا وإحباط أي تحركات قد تُفضي إلى اعتراف رسمي بأرض الصومال. كما عززت دولة مصر موقفها الداعم لوحدة الصومال عبر إرسال مساعدات عسكرية ضخمة تضمنت مدافع مضادة للطائرات ومدفعية، مصحوبة بتصريحات تؤكد دور القاهرة في دعم الأمن والاستقرار في الصومال.
ترافق هذا الدعم مع نشر قوات مصرية ضمن بعثة الدعم والاستقرار التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، ما أثار غضباً واسعاً في أرض الصومال، حيث أعربت السلطات في هيرجيسا عن قلقها من “الكم الهائل من الأسلحة الثقيلة” التي قد تكون خارج السيطرة الفعلية للحكومة المركزية في مقديشو. يتزامن ذلك مع وصول حكومة جديدة بقيادة عبد الرحمن سيرو، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 64%، والذي يحتار الجميع عن الأسلوب الذي ستتخذه الحكومة الجديدة في التعامل مه هذه الأزمة.
رغم أن سيرو عبّر عن دعمه العام للاتفاق مع إثيوبيا بشأن المنفذ البحري، إلا أن التزامه بتنفيذه ما زال غير واضح. تشير تقارير إلى احتمالية أن يكون سيرو أكثر انفتاحاً على الحوار مع مقديشو وداعميها مثل تركيا ومصر، ما قد يفتح الباب لتسويات إقليمية جديدة تعيد ترتيب المصالح في المنطقة.
المآلات الدولية واحتمالية الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة
في السنوات الأخيرة، تصاعدت آمال إقليم أرض الصومال في تحقيق الاعتراف الدولي كدولة مستقلة، مدعومة بتدفقات استثمارية من قوى إقليمية ودولية. كانت الإمارات العربية المتحدة في طليعة الداعمين، حيث استثمرت في تطوير ميناء بربرة وإنشاء ممر نقل استراتيجي يمتد إلى الداخل، مما جعل بربرة نقطة جذب للاهتمام العسكري من إثيوبيا والولايات المتحدة. هذه التطورات، إلى جانب الاتفاقية المثيرة للجدل مع إثيوبيا، منحت أرض الصومال أملاً كبيرًا بالاقتراب من تحقيق حلم الاستقلال.
على الصعيد الدولي، تظل المملكة المتحدة أبرز الداعمين لأرض الصومال، وربما القوة الأكثر حماسة للدفع نحو الاعتراف باستقلالها. ولكن هذا الطموح يواجه اعتراضات شديدة من الحكومة الفيدرالية في مقديشو، مدعومة من مصر وتركيا وعدد من الدول العربية الأخرى في جامعة الدول العربية باستثناء الإمارات. هذا الانقسام بين القوى الدولية والإقليمية يجعل قضية الاعتراف بأرض الصومال محوراً للصراعات الجيوسياسية في المنطقة.
الدور الأمريكي وتأثير الكونغرس
في الولايات المتحدة، بدأت ملامح تغيير محتمل تلوح في الأفق. في عام 2023، أقر الكونغرس الأمريكي قانوناً يشير بشكل صريح إلى أرض الصومال، وهو سابقة منذ إعلان الإقليم استقلاله عن الصومال في 1991. ورغم أن القانون لا يتضمن اعترافاً رسمياً بأرض الصومال كدولة مستقلة، إلا أنه يمهد الطريق لتوسيع الشراكة الأمنية مع الإقليم. كما يدعو القانون إلى دراسة جدوى لتعميق التعاون مع أرض الصومال فيما يتعلق بمصالح الأمن القومي الأمريكي.
ويأمل العديد من سكان أرض الصومال أن تؤدي عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض إلى فرصة لتغيير النهج الأمريكي تجاه أرض الصومال. خلال ولايته الأولى، حظي الإقليم بدعم كبير من المحافظين وقدامى المحاربين الذين يعتبرونه نموذجاً للديمقراطية والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي. وقد يدفع هذا الدعم إدارة ترامب نحو مراجعة سياسة “صومال واحدة” التي تتبعها واشنطن منذ عقود. ولكن مثل هذا التحول، إن حدث، لن يكون مجرد تغيير رمزي، بل سيمثل ضربة كبيرة لمقديشو، التي تعتبر أي خطوة نحو الاعتراف بأرض الصومال تهديدًا مباشرًا لوحدة الصومال وسيادته.
ورغم أن البيت الأبيض اختار استبعاد أرض الصومال من قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا الشهر الماضي، إلا أن الكونغرس الأمريكي قدم لها انتصارًا دبلوماسيًا بارزًا في إطار مشروع قانون الدفاع السنوي. هذه الخطوة، التي تعتبر بمثابة إشارة دعم ضمنية للدولة الفعلية، تعكس تناقضًا واضحًا في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة.
بربرة: بوابة استراتيجية ومنافسة جيوسياسية
على المستوى العسكري، يتزايد الاهتمام الأمريكي بميناء بربرة كبديل استراتيجي لمعسكر ليمونير في جيبوتي، خاصة مع تعزيز الصين لوجودها العسكري هناك. زيارة الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) في مايو الماضي، إلى بربرة كانت إشارة واضحة إلى هذه الطموحات. كما استضافت أفريكوم تدريبات عسكرية مع أرض الصومال في خطوة تعكس عمق التعاون بين الطرفين.
في النهاية، رغم أن الاعتراف الرسمي بأرض الصومال لا يزال بعيد المنال، إلا أن الديناميكيات الدولية والإقليمية المتغيرة قد تدفع الإقليم خطوة أقرب إلى تحقيق طموحاته. الدعم الإماراتي، الاهتمام الأمريكي المتزايد، والبيئة الجيوسياسية المتحولة كلها عناصر تجعل أرض الصومال لاعباً رئيسياً في مشهد القرن الأفريقي المضطرب.
التحدي الحقيقي لإقليم أرض الصومال
يقف إقليم أرض الصومال أمام تحديات داخلية عميقة تتعلق بالانقسامات العشائرية التي تهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي. تبرز عشيرة إسحاق كلاعب رئيسي في السيطرة على مفاصل السياسة والاقتصاد في الإقليم، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين العشائر الأخرى التي تشعر بالتهميش. حزب وداني، الذي وعد بمزيد من الشمولية للمجموعات المهمشة، جذب اهتمام هذه الفئات، لكنه لم يتمكن من معالجة المظالم المتراكمة منذ أكثر من عقد. ويزيد من تعقيد المشهد خطر اندلاع احتجاجات عنيفة إذا شهد الإقليم انتقالًا كبيرًا في السلطة، خاصة في حال بروز مزاعم حول تزوير الانتخابات أو قمع الناخبين.
وكان تمديد الرئيس موسى بيهي عبدي لفترة ولايته الرئاسية في عام 2022 تسبب في احتجاجات عنيفة أودت بحياة عدة أشخاص، وهو ما يُعد انعكاسًا لأسلوبه القيادي الذي يوصف بعدم المرونة وعدم الاستعداد للتنازل. لكن الانقسامات الاجتماعية ليست وليدة عهده؛ فقد كانت موجودة منذ عقود، وإن كان حكمه قد عمّق الشعور بالعداء بين بعض الفروع داخل عشيرة إسحاق نفسها. ولذلك حزب وداني، الذي يعتمد على دعم عشيرة الجرهاجي، مثل نموذجًا لهذه الانقسامات، حيث يشعر العديد من أعضائها بالتهميش من جانب جماعات مثل “هبر أوال” التي ينتمي إليها بيهي.
ويرى المراقبون أن التوترات قد تصل إلى ذروتها إذا ما اعتبرت نتيجة الانتخابات الأخيرة مؤامرة ضد الجرهاجيين، مما قد يدفع أنصار حزب وداني إلى رفضها، لكن ذلك لم يحصل. وفي هذا السياق، وترتيبًا على ما سبق، يكمن التحدي الأكبر للإقليم في إدارة هذه الانقسامات العشائرية التي تهدد استقراره. ومع ذلك، ورغم التنافس الحاد بين الأحزاب، تظل قضية واحدة توحد الجميع في أرض الصومال: السعي الحثيث لتحقيق الاستقلال التام عن الصومال، وترسيخ مكانة أرض الصومال كدولة ذات سيادة على الساحة الدولية.