تأملات
بينما أتابعُ هذه الأحداث المتسارعة في العالم العربي، والتي هي كقطع الليل المظلم، يغدو الحليم بها حيرانا كما قال النبي عليه السلام، لكنْ هنالك أفعال وردود أفعال جعلتني أطرح في نفسي التي أسأل لها الغفران، (كم هذا الإنسان محمدي؟) أي كم أنّ سلوكه وألفاظه وحلمه وأَنَاته وتهذيبه محمديّ؟
منذ فترة كان الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي والذي يعد من رموز الشعر الفلسطيني وقصائده يتغنى بها طلاب المدارس في فلسطين، يقرأ قصيدة ضمن فعاليات معرض الكتاب في العراق وكان قد كتبها قبل 14 عاماً وألقاها سابقاً قبل سنوات وهي قصيدة مشهورة له أصلاً يتحدث بها على لسان السيّدة زينب في خطابها إلى يزيد الأموي الذي قتل سيدنا الحسين رضي الله عنه ونكّل به وقتل أولادها محمد وعون، و(يزيد) قد أجمع العلماء على فسقه وإجرامه، قام أحدهم باقتطاع بيت واحد من القصيدة ونشره على أنّه يسبّ بني أمية، وبدأ يصعد الترند وكل الحانقين على شهرة تميم الواسعة والتي لم ينلها شاعر في عصره بقدره، يكتبون القصائد في ذم تميم وإسناد بني أمية، إلى درجة أنني أعرف شاعراً لم يكتب حرفاً واحداً عن غزّة منذ أن بدأ الصهاينة ذبحنا قبل عام كامل، ويومها وجدته يرتجل قصيدة كاملة في بني أمية نصرةً لهم، وأهل غزة أولى من بني أمية بالنصرة الآن، حتى وإن كان على صعيد القول الذي سيقول أحدهم إنّه شعرٌ لا يُقدّم ولا يؤخر، لكنه ليس مجرد شعر، قد توازي القصيدة في زماننا المنبطح هذا حديث النبي عليه السلام: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، في اقتطاع ذلك الشخص لقصيدة تميم هل كان تصرفه محمدياً؟ وفي وقت الإبادة الجماعية على أهل غزة في فلسطين، هل يجده مناسباً؟ وحين أثارَ فتنةً قديمة طواها أهل السنة بكل ما لديهم من جهد علمي حينما قالوا أمرهم عند الله عز وجل، ويجب ألا تثار هذه المسائل حفاظاً على النسيج المجتمعي المسلم، مع حزننا الشديد على ظلم بني أمية لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تآمرهم على الحسن بن عليّ بتسميمه، إلى قطع رأس الحسين رضي الله عنهما و70 من آل بيت النبيّ.
لكنني تساءلت كيف يمكن أن يدّعي المرء حبه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسلوكه غير محمديّ؟ لا يعنيني الحديث المنمق لأي امرئ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا مدحه له ولا تأثره أمام كاميرات الإعلام، ليس هذا هو المعيار، أعرف الكثيرين من البسطاء والذين لا يجيدون التعبير جيداً بكلماتهم يرون سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم في الرؤى كثيرا ومن رأى حضرة النبي فقد رآه حقا، وهم قريبون جدا من حضرته الشريفة، حتى وكأنما أنفاسهم ممزوجة بروحه الشريفة من كثرة الصلاة عليه واتّباعهم لسنته بحبّ شديد، وحينما أحاول الاطلاع على أحوالهم ومعرفة أسرارهم، أجدهم فعلاً قد تخرجوا من مدرسة سيدنا محمد ومدرسة آل البيت، واكتشفت بأن المرء مهما بلغ من العلم ومهما كثرت شهاداته إذا لم يتخرج من مدرسة سيدنا محمد وآله صلوات الله عليهم، فلا معنى لكل ما يتحصّل عليه في حياته.
هذه المدرسة أكثر ما علّمتنا إياه (نبذ الجاهلية) وأن أي إثارةٍ للطائفية وإيقادٍ للفتنة هو ليس سلوكاً محمّديّاً أبداً خاصةً في وقتٍ ينهش فيه اليهود أهل غزة منذ عامٍ كامل في تغييب وصمت عربي وعالمي مريع ومحزن.
محمد صلى الله عليه وسلم الذي حاول بكلّ سماحته ورحمته أن يخفي كل مظاهر التمييز العنصري وكان هذا أساساً جوهرياً في الإسلام، حين أذاب كل هذه الحواجز.
وفي أجمل ما كان حينما قال سيدنا محمد عليه السلام لسيدنا سلمان الفارسي (سلمان منا آل البيت) فلم تكن فارسيته والتي هي أصله حاجزاً بينه وبين أن يحبه النبي وينسبه لآل بيته الشرفاء.
وأيضا حينما شكا سيدنا بلال الحبشي أحد الصحابة وقد عيّره حين قال له (يا ابن السوداء) قال له النبيّ عليه السلام: إنّك امرؤٌ فيك جاهلية، إذ وصف التعيير بأصل العرق بين المسلمين (جاهلية)، وهنا أتذكر أنّ القائد العظيم الذي فتح القدس صلاح الدين الأيوبي هو كرديّ الأصل، بمعنى إنْ وجدت فيك عنصريةً تطفو على سلوكك فاعلم أنك امرؤٌ فيك جاهلية حسب المنهج المحمديّ.
وإذا كان الظفر بعدوك الشخصي فرصةً لأنْ تشمت به فنحن لدينا بالقياس على ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حينما دخل مكة المكرمة فاتحاً، وقد آذاه أهلها أيما إيذاء، وأخرجوه منها وحاربوه وقتلوا أصحابه، إلا أنّه حينما ظفر بالفتح دخل منكساً رأسه تواضعاً لله عز وجلّ وقد ظنّ الجميع أنّه قد جاء وقت التشفّي من أعدائه وخصومه، ففاجأ الجميع حين وقف بهم مخاطباً (اذهبوا فأنتم الطلقاء) في مشهدٍ تاريخيّ يلّخص عظمة الإنسان النبيّ، وعظمة المجاهد، وعظمة المعلم، ويفسّر لنا معنى (الرحمة المهداة)، وإذا لم يكن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنا فسنعيش ونموت دون أن ندرك كنه هذه المعاني العظيمة التي أرساها الإسلام، ليس مهماً أن تكون عالماً وإماماً وخطيباً وبليغاً في الحديث، المهم كم أنت إنسانٌ تقتدي بالقدوة المحمدية؟ وفي هذا الإطار أستعرض عظمة الصبر الزينبي حينما وقفت على دماء أخيها وولديها وقالت: (ما رأيت من الله إلا جميلاً) وإنّي إذ أتفاجأ بكمية السبّ والشتم عبر المنشورات والصور في مواقع التواصل الاجتماعي وأنا أتساءل ألم يدخل هؤلاء المدرسة المحمدية؟ ألم يسمعوا حديث النبي: “ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء”، قد يجيء أحدهم ويقول لم تشعري بما يشعر الذين يسبّون؟ ولم تعرفي ما الذي عاشوه؟ بلى نحن أكثر شعب يتألم في العالم، ونحن نعيش في أرض حروب ورباط جيلاً عن جيل، لكن ما يحدث من فتنة الآن لم أشهدها من قبل، ومن ذاق حلاوة الصبر وعظمة مقامه عند الله عز وجل عرف ما معنى قول السيّدة زينب (ما رأيت من الله إلا جميلا) وكان بإمكانها أن تسبّ وتلعن القاتلين وهي عقيلة بني هاشم الخطيبة الجليلة المفوّهة ابنة فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، لكنها ابنة المدرسة المحمدية، فيها من البصيرة ما فيها، لها قلبٌ يرى، فكيف تُكذّب ما رآه قلبها من أنوارٍ وعلومٍ ووصال.
أسأل الله أن يهدي الأمه ويسوق لها دعاة خير لا دعاة سوء يلمّون شملها ويذيبون الفروقات بينها، فعدوّنا سعيد بتفريقنا، مستشرٍ في غوغائيته، والمسكين الذي يظنّ وهو يصفق مع الاحتلال لفرحه، أنّ الاحتلال سيحفظ له هذا، فهو مخطئ فهذا العدو الذي تقدم له وردة سيطعنك في ظهرك، أتعرف لماذا؟ المعادلة بسيطة جداً، لأنّ هذا العدوّ خان أعظم الخلق على الأرض وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وغدر به ونقض عهده معه، فإن كان فعل هذا مع سيد المرسلين، فمن أنت كي يحفظ العهد معك؟ ومن يظنّ أن العدوّ ينفذ مخططه بدقة متناهية يجعلني أضحك، لأنّ العدو على الرغم من علوه هذا “وليعلن علوا كبيرا” لا نراه إلا منكّساً زائلاً وإن كان ينفذ سياسته الصهوينية ظاهراً إلا أنّه في حقيقة الأمر ينفّذُ المخطط الإلهي في ملكوته، وأنّ الله عز وجل لن يترك دماء أهل غزة وآهاتهم وجوعهم ودمعهم لمدة عام وهم يُقتلون مخذولين من العالم كله تذهب هدراً، وعلى قدر صبرنا نثق بتدبير الله عز وجل الأعظم، وأنّه يمكر لنا، ولن يكون إلا وعده الحق بالنصر والتمكين، ونسأله أن نشهد على ذلك بأعيننا فنذوق حلاوة النصر والتحرير.
والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وعلى فلسطين وأهل فلسطين وكل من قاوم الاحتلال في كل وقت وحين وسلم سلاما مباركاً عظيماً.