قادمةً من المواصي إلى منزلي في النصيرات ( المنطقة التي لا تبعد كثيراً عن نيتساريم ) أو المنطقة الحدودية لجنوب الوادي، اتصلت عليّ عبير وهي في طريقها إليّ لتقول: لقد سقط صاروخ فوقنا، وصفتُ لها منزلنا بكلّ اللغات، وبكل المعالم التي يمكن أن توصلها له، لكنها لم تعرفه إلا حين رأتني أقف بانتظارها في منتصف الشارع، حينها قالت لي عبر الهاتف الآن عرفت الطريق.
يظل الطريق مجهولاً حتى ترى أحداً تعرفه، هكذا رأيت في عينيها الهاربتين من غارة عنيفة، زميلتي في مدرسة بني سهيلا في خانيونس، تكبرني ب15 عاماً، لكنني لم أشعر بذلك يوماً، كانت أختاً وصديقة وأمّاً في أحيانٍ كثيرة، وعدا عن كلّ ذلك (أُحِبّها في الله جدّاً).
وحين عانقتني بكت كثيراً، أخبرتها أرجوكِ لا تخافي من الصاروخ، لقد نجوتِ بحمدِ الله، فتقول أنا أبكي لأني رأيتك وليس من أجل الصاروخ!
أشربتها الماء وغَسَلَت وجهها، لقد وصلتني بالتزامن مع قصف مدرسة أبو عريبان في النصيرات ووقوع مجزرة كبيرة فيها، قالت لي رأيتُ الصاروخ بعيني وهو ينفجر وقرأت الشهادتين. لقد بات وردنا اليومي في غزة الشهادتين، مع كل صاروخ يسقط، ومع كل اسم شهيد ومع كل صراخ في الشارع ومع كل قذيفة ومع كل نسف نسمعه ومع كل اجتياح مباغت.
أمازحها عُمرك طويل يا عبير، أنتِ بخير يا صديقتي، أراها لأول مرة بعد هذا الكابوس الطويل من الحرب، ليست هنالك كلمات كثيرة، صمت طويل وحزن أطول!
تخجلُ من عيوني وأخجلُ من عينيها .. ! تخجلُ من أن تجسَّ بيديها موضع فقداني لأطفالي، وأنا أخجل من بيتها الذي بنته حديثاً بعد أن ادّخرت عمرها من أجله وقد أحرقه الاحتلال وشوّهه بالقذائف. تخجلُ أن تقول لي : ( معلش) ، وأنا أخجل أن أقول لها : ( رح تهون ).
وفجأةً نبكي معاً دون صوت ونكتشف ذلك ونحن نتحسس مناديلنا الورقية لنجفف دموعنا، ونتظاهر بأن أيّاً منّا لم يرَ دمع الآخر !
تعرفين لديّ نسكافيه، أقول لها كأنّه ما من شيء حدث من النوع الذي تحبينه، سأحضره لكِ تماما كما كنت أفعل في المدرسة حين تسأل الزميلات لماذا تحبين عبير ؟
كنتُ أخبرهم لأنني أدركت بها معنى الحب في الله، لكن أحداً لم يكن يفهم هذا. وأدركت معنى ذلك الحب أكثر حين سمعت القصف ونزلت بسرعة إلى الشارع أبحث عنها وأنتظرها.
أردف وأقول: “ولديّ بسكويت المساعدات، المحشوّ بالتمر، لا بأس به سيبدو لذيذاً مع النسكافيه”، والحقيقة أنه ليس لذيذا أبدا ولا أي شيء يبدو طيبا في الحرب. كيف يمكن ليدٍ ثقيلة جداً أن تحرّك فنجان نسكافيه ؟ وكيف لقلبٍ أوجعه الموت كثيراً أن يتذكر وجه الحياة في عيونٍ آثرت خجلها الطويل أمامي ؟
أنظر إلى وجهها الذي لا يشبهها وتسألني: هل رأيتِ كيف تحوّلت بشرتي من الأبيض إلى الأسمر ؟ يوجعني سؤالها جدا وتجيبها دهشتي وأنا أنظر إلى وجهها الذي صٌبغ بحرارة الشمس والنار، وإلى كفيها الناعمتين كيف تشققتا بهذا الشكل؟!
لكنه خجلي من جديد، تخجل من قلبي الذي اصطلى من نار الفقد، وأخجل من وجهها الذي اصطلى بنار الحطب والشمس والخيمة.
تقول: تتذكرين طاولة السفرة التي اشتريتها قبل الحرب بقليل ؟ كنتُ برفقة صديقتنا في منزلها وكانت عبير سعيدة بشراء تلك الطاولة وكانت مهتمة بلونها وتفاصيلها بشدّة، أخذت تدير كاميرا الهاتف عليها وترينا إياها بفرح، وكنا سعداء لسعادتها، وأتذكر أنني كنت أقول لها ما أجمل الطاولة وما أجمل الكراسي، هكذا اكتمل بيتك الجديد، حتى انتبهت لشهقةٍ قاسية حين أردفت: البارحة أخرجوا بقاياها من تحت الركام، واليوم أحرقتُ ما تبقى من خشبها كي أصنع به طعاماً !
في تلك اللحظة خجلتُ من كأس النسكافيه الذي أعددته على الغاز أمام يديها اللتين تطهوان الطعام منذ سبعة أشهر على النار في الخيمة. ولكن ذلك الخجل تعاظم بي حين قالت لي: في إحدى الليالي حاصر الاحتلال فجأة مكانا بالقرب منا، حملنا أنفسنا وخرجنا نهرع وفي ذروة هروبنا قلت لابني أنس أغلق الباب فقال لي: لا باب للخيمة !
ظلّ النيسكافيه أمامنا حتى أصبح بارداً، لم تخبرني عن أطفالي شيئاً ولم أسألها عن تفاصيل حال بيتها، وتجنبنا طيلة الوقت أن ننظر إلى عيون بعضنا البعض، لكننا اكتشفنا في مناورتنا للدموع والحزن وتجنّب فخاخ كلماتنا، أننا قلنا كلّ شيء، وبكينا أيضاً كلّ شيء!