أسفار

عالم دلتا ميكونغ

أغسطس 10, 2024

عالم دلتا ميكونغ

ضحكت كثيراً حين كلمتني أختي فجرَ اليوم تسألني إن لم أتعب بعد وهل سلمتني الفيتنام مهمة التعريفِ بأسرارها وخباياها للعالم؟


أختي العزيزة نجلاء.. كل شيءٍ هنا رائع وقلبي لا يسمح لي بالعودة بعد.


مضت بنا العربة بعيداً جداًّ عن سايغون، إلى أقاليمِ دلتا الميكونغ جنوبي سلسلة جبال أنامايت في آخرِ بقعةٍ  تحد فيتنام وآسيا جنوبا. تفضل أيها الهواء الاستوائي المنعش إلى رئتي واملأهما بجزيئاتِ الاكسجين المنعشة.

 

كنتُ أبتسم بسعادة وأنا أقضمُ أجزاء من فاكهة المانجيس اللذيذة، نحن لم نذق فواكهَ في حياتنا يا أصدقاء، خصوصاً من يعيش منَّا في أوروبا حيث تفقد الفواكه طعمها ومحتواها المغذي وهي مخزنة لأيام واسابيع في المجمد.


ما هذا الطعم الرائعُ اللذيذُ الذي خلقهُ الله فيكِ أيتها الفواكهُ الملونةُ اللذيذة؟! لا علاقةَ أبداً ولا قرابة للمانجو والأفوكادو اللذان نعرف بما هنا من ثمار!

 

تحسرتُ على عدم قدرتي أخذَ شيء منها حين أعود لأن حقائبي ممتلئة بأشياءَ اقتنيتها في محطاتِي السابقة ووددت لو أخزن في جسدي وألتهم عدداً هائلا منها حتَّى آخِرِ لحظةٍ لي في الرحلة.


أنا حقا سعيدة؛ شكراً على كلِّ ما أنعمتَ علينا يا الله.


هنا يمكنك تسلقُ إحدى الاشجار الوارفة أو هز غصنٍ قريبٍ منك لتتساقط بينَ يديكَ الثمارُ اللذيذة المنعشة وربمَا تكونُ محظوظاً إذا كانَ بعضُ القردةِ بجانبك ليتسلقوا ويلقوا لكَ بثمرةِ جوزِ هندٍ لذيذة.

وقفنا في طريقنا للاستراحة في مكان رائع لبيع البن، لأن هذه المنطقة التي نحن في طريقنا إليها  معروفة بالكثيرِ الكثيرِ من الخيراتِ ومنها البن. طلبت فنجاناً من القهوةِ الساخنة وفتحت حقيبة ظهري  لأدفعَ ثمنها، فانصدمتُ لأنني لم أجد حقيبة النقود خاصتِي. نسيتها في سايغون يا أصدقاء، والمفروض أنّ بداخلها المبلغ الذي سيلزمني في دلتا ميكونج فترةَ مكوثي فيها.


قفزت إلى دليلنا تانغ والذي اتصل على الفور بسايغون ليخبره موظفوا الفندق أنهم قد عثروا عليها وهي بأمان في انتظاري. وخلالَ ذلك وجدتُ أفراد المجموعةِ حولي وقد أحضروا لي القهوةَ ودفعوا نيابةً عنِّي ثم عرضوا عليّ النقود التي أحتاج حتى موعدِ عودتنا إلى سايغون.


شكرًا أيها الفريق الرائع.. الأمان سمة عامة في فيتنام وانخفاض معدل الجريمة والسرقة مقارنةً بالدول الأخرى أمرٌ عظيم ومحير في نفس الوقت.


فطوالَ الرحلة لم نتعرض لأيِّ مضايقات أو تطفل وحتى في الساعاتِ المتأخرةِ من الليل وهذا من الأمور الإيجابية التي ترفعُ من معدلِ الإقبال السياحي على فيتنام. هذا الشعور بالأمان في دهاليزِ بلدٍ أزوره لأول مرة أدخلني في عالمٍ من الألفة والاطمئنان وجعلني أستمتع أكثر بكل جزئية ومغامرة.


كنت وأنا صغيرة بينَ جميعِ إخوتي مدللةَ أبي، وكان يضحك دائما من خوفي وفزعي من الحشراتِ والحيوانات لكنه كان يلاحظ في نفس الوقتِ شجاعتي وحبي للمغامرات فكانَ يحتارُ في أمرِي ويناديني بلهجته العزيزة المغامرةُ الخوّافة.


آهٍ يا أبي الحبيب لو أنكَ تعلمُ أين أنا الآن… لقد وصلت حالاً إلى أدغالِ دلتاميكونغ ونهر تسعة التنين حيث عالم الطبيعة الفطرية بكل مكوناتها التي لم تعبث بها يد الانسان بعد. ونحن نتمشى عبر ممرات تملؤها أشجار جوز الهند والزهور العجيبة لنضع أغراضنا في أكواخ المبيت ونستريح لمحت سحليةً عجيبة تجري بسرعة وكأنها تشعرُ بالفزع، على الأغلبِ ذهبت لإخبارِ قومها عن وصولِ المزعجين.


تجمع دلتا ميكونغ في فيتنام بين الطبيعة الخلابة والثقافة الغنية والحياة الريفية النابضة بالحياة. تشتهر المنطقة بشبكتها المائية الواسعة من القنوات والأنهار التي توفر وسيلة ممتعة ومثيرة لاستكشاف المنطقة عبر رحلات القوارب السامبان التقليدية. يمكن الاستمتاع بمشاهدة الطبيعة الخلابة والحياة اليومية للسكان المحليين أثناء رحلاتهم، بالإضافة إلى زيارة الأسواق المحلية على ضفاف القنوات لاستكشاف وشراء المنتجات الزراعية الطازجة والحرف اليدوية المحلية. كما تعتبر دلتا ميكونغ مركزاً رئيسياً لإنتاج الأرز فيفيتنام، وتتميز بتنوعها الزراعي مع زراعة مجموعة متنوعة من المحاصيل مث لالفواكه والأسماك والروبيان بجانب الأرز.


اعبري بمراكبك الخشبية الى جغرافيّةِ أنصافي

واسمحي لأعشابكِ أن تنبت داخلي

وتزهر في جميعِ ممراتِي الحزينة

أيتها الحصيرة المعلقة تحت الشجرة الغناء

هل تحرسينَ الليلةَ قلباً هارباً من النوافذِ والابواب

هل تسمحين أن تكوني بيتاً للقصائدِ والغرباء..


في استعراضٍ لأصوات ومباهج الطبيعة المذهلة، عشت أيامًا ولحظات حابسة للأنفاس في دلتا ميكونغ وكنت أسهر كل ليلة تحت سمائها المقمرة وأستيقظ قبل الفجر لأنتظر شمسها كل فجرٍ جديد.


وبينما كانت تستقبل فرحتي تلك الحصيرة المعلقة تحت شجرة البابايا الضخمة وسط النهر العجيب لأقاسمها خواطري، فلقد كانت بدورها سببًا بديهيًا لتعديل المزاج ونسيان التعب والإرهاق.


وفي إحدى الليالي من مكوثي هناك تسللت كعادتي ليلاً من الكوخ واستلقيت هناك بين نهرين، كنت أشعر وكأن الماء ينصب منهما إلى أوردتي وشراييني. وكنت هناك بعيدًا، حيث تشابهت الحقيقة والأحلام لأول مرة أمامي .


انسَ أمر الطرقات التي تعرفها، وتخلَّ عن أي وسيلة نقل تعرف، ثم تفضل معي إلى أحد القوارب الخشبية لتنقلك إلى العالم المائي عبر إيقاعات نهر ميكونغ العظيم، حيث سيطفو قلبك مندهشًا أمام مشاهد عظيمة، مشاهد لايمكن للعاقل إلا أن يسبح ويذكر مبدعها، مشاهد لطبيعة خلابة تسامت بعظمة لتخلق هنا الحدث وتهب الإنسان من خيراتها وكرمها.


هنا، يا أصدقاء، تطفوا القوارب والمنازل والأسواق ومعابد الخمير الحمر، هنا تطفوا القرى المحاطة بحقول الأرز في مشهدٍ مدهشٍ على عدد لا يحصى من الأنهار والقنوات والجداول التي تتقاطع مع المناظر الطبيعية الحابسة للأنفاس مثل الشرايين.


وبعد تجوالنا وتعرفنا إلى بعض أهالي المنطقة ذهبنا إلى ميناء صغير يفصل دلتا ميكونغ عن اليابسة، وهناك وجدنا مركبًا كبيرًا في انتظارنا، ووجدنا أيضًا ليين. ليين بتشديد الياء الأولى وتمديدها، فتاة فيتنامية من سكان المنطقة، ولأنها خبيرة بالمنطقة وأسرارها، فلقد كانت رفيقة لنا في هذا الجزء من الرحلة.


بعد ما يقارب الساعة من الإبحار، توقفنا عند إحدى العائلات من السكان الأصليين، حيث استرحنا وشربنا الشاي وتفرجنا على مقاطع غنائية رائعة تعبر عن قصصٍ أسطورية لأهل المنطقة.


يمتد نهر ميكونغ العظيم -أحد أكبر المجاري المائية في العالم- في منتصف جنوب شرق آسيا، متدفقًا عبر 6 بلدان ويؤوي صوراً مدهشة من الحياة البرية، ومناظر طبيعية وثقافات عديدة على امتداد ضفاف النهر لن تراها أبداً في أي مكان آخر على الكوكب.


بعد وصولنا إلى الميناء الصغير الذي يفصل دلتا ميكونغ عن اليابسة وجدنا مركباً كبيراً في انتظارنا ووجدنا أيضاً ليين. ليين بتشديد الياءِ الأولى وتمديدها فتاة فيتنامية من المنطقة ولأنها خبيرة بالمنطقة وأسرارها فقد رافقتنا في هذه الرحلة. بعد ما يقارب الساعةَ من الإبحار توقفنا عند إحدى العائلات من السكان الأصليين حيث استرحنا وشربنا الشاي وتفرجنا على مقاطع غنائية تعبر عن قصصٍ أسطورية لأهلِ المنطقة.


ثم مضى بنا القارب إلى مكانٍ غريبٍ عجيب، ربما سمعتم عن حكمة الصينيين في أكلِ الثعابين والتداوي بها إذ أنهم يقولونَ أنّ الطعامَ الذِي لا يقتل يداوي. وهنا يا أصدقاء في دلتا ميكونج تنتشر الافاعي والعقارب بأنواعها الكثيرة والظاهر أن أهل دلتا الميكونج .


لقد تجاوزوا أهل الصين في علاقتهم بالأفاعي السامة بخطوات، لقد وجدتهم يحضرون منها الدواء بانواعه وأكدوا لي القوة الخارقة لمشروب الافاعي المرقدة بسمِّها وقدرتها على علاج امراض كثيرة مثل هشاشةِ العظام .


تحسرتُ كثيراً لأن الإنسان لا يدعُ مخلوقاً في حاله، منظر الافاعي المسكينةكان مؤلماً امامي فانصرفت لأتفرج على بعض السكان وهم يحضرون منجوز الهند الحلوى اللذيذة.


وفي مكان المبيت الرائع وسط نساء الدلتا، ومع صاحبة مشروع الأكواخ الذي استضافنا، شعرت بأنني غمرت بدفء الاستقبال وروح الودّ التي جعلتني أشعر كما لو أنني في بيتي الثاني.


قمت بطهي وصفات تقليدية معهنّ، وكانت تلك اللحظات الجميلة والمرحة من أجمل ما عشت لقد ترسخت في ذاكرتي بألوان الفرح والسعادة، وسرعان ماتفجّرت بيننا صداقة حقيقية وعميقة كما حدث مع فتيات التاي.


شارك