أسفار

إلى كوبنهاجن

سبتمبر 27, 2024

إلى كوبنهاجن

العالم من حولي وأنا طفلة كان عبارة عن حكايات وقصص وخيال. كنت أدمج هذا الخيال في كل نواحي حياتي، في المدرسة والشارع، وحتى في شجاراتي مع إخوتي. كنت متأثرة كثيراً بقصص الكاتب العظيم هانس كريستيان أندرسن، الذي يُعدّ من أعظم كتاب الأطفال في التاريخ الأدبي العالمي.


ولد أندرسن في أودنسه، الدنمارك، عام 1805، واشتهر بأعماله التي ترجمت إلى أكثر من 125 لغة، منها “البطة القبيحة” و”بائعة الكبريت” و”حورية البحر الصغيرة”. أحياناً، كنت أتساءل باكية إذا ما أنصفت أمي أحد إخوتي دوني في بعض الشجارات: “هل أنا البطة السوداء؟” متأثرة بقصته الشهيرة التي تعكس التحديات التي يواجهها الفرد المختلف في مجتمع لا يتقبله. وأحياناً أخرى، كنت أرتجف برداً وأنا أجوب الشوارع المظلمة، متأثرة بقصته “بائعة الكبريت”، التي تصور مأساة الفقر واليأس بطريقة مؤثرة.


أندرسن لم يؤثث خيالي بقصصه فقط، بل أثث خيال الأطفال حول العالم. وربما نجد في قوة قصصه تأثيراً عميقاً على مفاهيم السعادة والوعي الذي يتمتع به الشعب الدنماركي. قصصه لم تكن مجرد حكايات مسلية، بل كانت دروساً عميقة عن الإنسانية والحكمة. وقد يكون هذا جزءاً من الجواب على تساؤل: “لماذا يُعتبر الشعب الدنماركي من أسعد شعوب العالم؟” يُعزى هذا الشعور الى فلسفة هيغ)، التي تركز على الاستمتاع بالأشياء البسيطة، مثل قضاء الوقت مع العائلة أو التمتع بلحظات هادئة مع كوب قهوة في مكان دافئ.


اليوم، وأنا أتمشى بين ممرات الحديقة إلى بيت أندرسن العتيق في أودنسه، في أجواء خريفية تشبه الأساطير، أتأمل المباني الساحرة التي تجعلني أغوص أكثر فأكثر في خواطر وتساؤلات لا نهائية. المباني العتيقة تحافظ على طابعها البسيط والأنيق، وهو ما يميز الهندسة المعمارية في الدنمارك. اليوم، وضحكة الغيوم تتجمع حولي، وشخصيات الكاتب تطل من جنبات الطريق الطويل. أحس أنني جزء من قصصه، أشعر أن عطر دفاتره يملأ المدينة، أرى ترددات أفكاره تحيط بي، ليصنع عالمه الخيالي في كوبنهاغن من كل جانب.


ورغم وجود فئة معادية في الدول الإسكندنافية، إلا أنني خلال رحلتي إلى المنطقة لاحظت وجود فئات أخرى تناصر القضايا العربية، وخاصة قضية فلسطين. يتجلى هذا في عدة مظاهر، مثل اللافتات المؤيدة لفلسطين التي تنتشر في كثير من الساحات وواجهات المحلات وسط المدينة. هذه المشاهد جعلتني أرى التضامن العالمي مع قضية فلسطين، حتى في أماكن قد لا تتوقعها.

خلال زيارتي إلى كوبنهاجن، شعرت بسعادة كبيرة وأنا جالسة في مطعم فلسطيني يدعى “غزة”، الذي يقع في قلب المدينة. يتميز المطعم بتصميمه التقليدي وأجوائه التي تعكس التراث الفلسطيني بأفضل صورة، حيث النكهات التقليدية والموسيقى العربية يعيدانك إلى روح فلسطين. الأجواء الخريفية في كوبنهاجن كانت ساحرة؛ الأشجار بدأت تتزين بألوانها الذهبية والحمراء، ونسيم الهواء العليل يضفي لمسات من السحر على المدينة.


ومما زرت من المآثر المهمة كان قصر كريستيانبورغ، وهو قصر ومبنى حكومي تاريخي، كان فيما مضى قصراً ملكياً، وهو اليوم يحتضن البرلمان الدنماركي والمحكمة العليا ووزارة الدولة. وبينما كنت أستكشف ساحات قصر كريستيانسبورغ الملكي، استرعى انتباهي التصميم البسيط الذي يميز العديد من المباني والقصور المهمة في الدنمارك، على عكس كثير من القصور التي زرتها في بلدان أخرى. العمارة هنا تتمتع ببساطة وجمال ينم عن الأناقة المتواضعة، وهذا يتماشى تمامًا مع فلسفة “هيغ” التي تروج للراحة والسعادة والعيش البسيط.


هذا التوجه في التصميم يعود جزئيًا إلى التأثير التاريخي الذي تركته العمارة الشعبية في شمال أوروبا، حيث كانت تستخدم المواد المحلية المتاحة، مما أدى إلى تصميمات قوية وعملية. اليوم، تركز الدنمارك على الاستدامة وقضايا البيئة، مما يجعل مبانيها الحديثة تمتزج بين الجمال العملي والاعتبارات البيئية، مع الحفاظ على لمسات تقليدية.


بينما أقف اليوم هنا في قصر كريستيانسبورغ، تستحضر ذاكرتي قصة أخرى للكاتب الرائع هانس كريستيان أندرسن، وهي قصة “الملك العاري”. تحكي القصة عن ملك مغرور، عاشق للملابس الفاخرة، الذي يعتقد أنه الأذكى بين الجميع. في يوم من الأيام، استعان الملك بحائكين زائفين ادعيا أنهما يمتلكان القدرة على حياكة ثياب لا يمكن أن يراها إلا الأشخاص الأذكياء.


انجرف الملك وراء غروره، ولم يدرك أنه وقع في فخ الحائكين. عندما أنجزا ثيابه الجديدة، ارتدى الملك ما ظن أنه أجمل الملابس، بينما كان في الحقيقة عارياً تمامًا. وعندما خرج ليتباهي أمام شعبه، بدا الجميع مدهوشين، لكنهم كانوا في الواقع خائفين من الاعتراف بأنهم لا يرون شيئًا. ولكن وسط الحشد، سمع الجميع صرخة طفل صغير: “إنه عارٍ!”، فتفجرت الضحكات وكشفت الحقيقة. بذلك، أدرك الملك، من خلال براءة الطفل، أنه قد خُدع وأن غروره هو الذي أوقعه في هذا المأزق.


بينما أتأمل الآن جمال القصر البسيط، أكتشف مجددًا أن الجمال الحقيقي يكمن في البساطة، وهذا بصراحة ما يُميز الثقافة الدنماركية؛ البساطة التي تمزج بين الأناقة والفعالية في كل تفاصيل الحياة اليومية.


شارك

مقالات ذات صلة