أسفار
ودعنا هانوي العجيبة في الصباح الباكر وتوجهنا بالسيارة شمالاً لثلاث ساعات نحو هالونج. كنت فضولية جداً طوال الطريق، وناتج، الذي كان يحكي لنا باندفاعه ولغته المحببة، أطلعنا على العديد من أسرار المنطقة.
يقع خليج هالونج في شمال شرق فيتنام، تحده شمالاً الصين وغرباً جزيرة كات. يمتد الخليج المدهش لمئة وعشرين كيلومتراً، وتبلغ مساحته 1550 كيلومتراً مربعاً، ويحتوي على مئات الجزر الصغيرة المكونة من الكلس.
عند بوابة هالونج، توقفنا عند مصنع يحتوي على مزارع لؤلؤ طبيعي. كعادة الفيتناميين، الذين وقعت في حب لطافتهم ورقيهم، استقبلونا بحفاوة شديدة، وقادتنا فتاة فيتنامية جميلة جداً تتقن اللغة الألمانية إلى أقسام المكان، ثم شرحت لنا مراحل زراعة وتنقية اللؤلؤ، وأنواعه وأصدافه، وكيفية تحويله إلى مجوهرات رائعة. غادرنا المصنع ومعنا معلومات جديدة، ثم توجهنا إلى غايتنا في هالونج.
وصلنا إلى ميناء هالونج ظهراً، وكان في استقبالنا طاقم سفينتنا الرائع. استقبلونا بحفاوة، وقدموا لنا مشروبات وفوطاً باردة بسبب الحرارة والرطوبة (هذه عادتهم في جميع المطاعم والفنادق)، وغنوا لنا بعض الأناشيد الترحيبية ثم سلمونا مخططاً لرحلتنا إلى أعماق الخليج. كل شيء كان مرتباً ومُتقناً ورائعاً، رويداً رويداً انطلقت بنا السفينة كالحلم عبر مناظر تسحر الألباب، حقاً سبحان من خلق وسوى. حرفياً، يصعب علي وصف المناظر الساحرة والترتيب المنظم الذي أتاح لنا استمتاعاً أكبر بأجواء المكان.
تناولنا الغذاء، وفي كل وجبة كانوا منتبهين لطعامي وشرابي كوني المسلمة الوحيدة بين الموجودين. كان الطعام طوال الرحلة رائعاً ولذيذاً، وقد قدم لنا الطاهي على جانب الرحلة فرصة تعلم بعض الوصفات التقليدية هنا.
بعد استراحة قصيرة، جاءت اللحظة المثيرة التي انطلقنا فيها بأحد القوارب إلى إحدى الجزر القريبة، وهناك سلموا كل واحد منا ورفيقاً له زورقَ تجديف. هل يمكن أن تكون الأحلام قريبةً منا إلى هذا الحد؟ في الزورق الرائع، انطلقت وصديقتي تجديف في الخليج ونستكشف المكان في لحظات لا تُنسى.
أمامنا، وفي منظر خاطف وحابس للأنفاس، تناثرت عشرات الجزر والجبال الصخرية الناظرة إلى السماء كآلئ رائعة مكسوة بالكثير من الأشجار الاستوائية التي خلقت بيئة ملائمة لاستيطان بعض الحيوانات النادرة. ولأن مكونها الأساسي الحجر الجيري، فقد تشققت مع الزمن لتتشكل داخلها بعض الشواطئ الخلابة وبعض الكهوف الخاطفة للنظر.
بعد عودتنا، نزلنا لدخول أحد الكهوف، حيث انتهينا بعد مشي واستكشاف إلى شاطئ ساحر. وفي المساء، عدنا إلى السفينة التي تعمقت بنا أكثر في الخليج لنعيش ليلة لا تُنسى. بعضنا تأمل النجوم وصورها، والبعض الآخر اصطاد الحبار، وأنا جلست بفضول مع دليلنا السياحي أستمع إلى قصة فيتنام مع الحروب وأسباب حدوثها وآثارها، فبدأ يسرد بفخر ولساعات دون ملل قصة كفاح هذا البلد الرائع.
في اليوم التالي، استيقظنا فجراً لنشهد شروقاً مذهلاً للشمس وسط الخليج، ثم صعدنا إلى سقف السفينة لنجد مدرباً لرياضة الـ”تاي تشي” في انتظارنا ليشرح لنا ويعلمنا خطواتها. بعد ذلك، تناولنا إفطاراً لذيذاً وانطلقنا مجدداً إلى أحد أهم وأكبر الكهوف في خليج هالونج. ورغم وعورة التسلق والدخول إليه، إلا أن مشهده الخاطف أنسانا تعبنا كله.
ولأن المناظر كانت أكثر إدهاشاً ونحن نتخيل منظرها من فوق، لم نستطع مغادرة الخليج دون تنفيذ فكرة مجنونة والتحليق بطائرة مائية، ثم إلقاء نظرة أخيرة على المناظر البديعة وتصويرها. لقد كانت حقاً تجربة فريدة ولا تُنسى ونحن ننظر إلى آلاف الجزر الجيرية والغابات المطيرة وآلاف السفن المتناثرة في خليج هالونج.
إلى الريف وعالم أقليات التاي
فتحت قلبي للأحلام التي مكثت فيه طويلاً لتحلق، ووقفت أنظر إليها بفرح في مشهد مذهل، ثم تساءلت كيف الجنة إذن والله خلق وأبدع كل هذه العظمة على الأرض.
لساعات طويلة، انطلقت بنا المركبة إلى عالم الريف الساحر، إلى أعماق أعماق فيتنام، بغاباته الاستوائية وحقوله الساحرة وأقلياته التي تستوطن الأدغال. تعبت جداً في الطريق، كونها غير معبدة وفيها تعرجات كثيرة. وتراءت لي قبل الوصول بقليل فكرة أخذ استراحة اليوم وعدم القيام بأي مغامرة جديدة، لكن كارهي وتعبي غادراني كعادتي فور الوصول.
وقفت مشدوهة أمام المناظر التي أمامي وحمدت الله على ما أبدع. حقول الأرز مترامية الأطراف وجنة من أشجار الفواكه الاستوائية. كنا قد حجزنا في منتجع للأكواخ الرائعة، وفور رؤيتي للكوخ الخاص بي، وقعت في حب المكان وفكرت في رحلة أطول في هذا المكان النائي بعيداً عن كل شيء. جميع الأكواخ مبنية من خشب البامبو الذي ينتشر في الغابة القريبة، والإطلالة من أعلى الجبل زادت المكان سحراً وجمالاً.
بعد استراحة صغيرة، هممت بالذهاب لتناول الغذاء، وإذ بي أسمع صرخات صديقتي الموجودة في الكوخ المجاور لي. على ما يبدو أن إحدى السحالي تسللت إلى كوخها بعدما تركت شرفتها مفتوحة. جاء أحد المشرفين واهتم بأمرها، فهم متعودون على ذلك. هنا تنتشر الثعابين والسحالي والعقارب وغيرها، ومن الضروري أخذ الحيطة والحذر.
أثناء تناولنا الطعام، بدا بعض أفراد المجموعة مستمتعين بمضغ الضفادع المقلية، بينما توقفت عن تناول طعامي متألمة للمصير الذي طال هذه المخلوقات المسكينة. بعيداً في عمق بيئتها الآمنة، امتدت يد الإنسان برغباته البشعة لتلقي بها دون رحمة في إناء من الزيت الساخن.
تمتمت بحرقة على نقاشهم أن تناول الأطعمة الغريبة جزء من الاكتشاف في الأسفار، وتذكرت غصتي في إحدى جولات الأيام الماضية حين لمحت في إحدى القرى النائية مطعماً مختصاً بلحم الكلاب. يا أسفي الشديد على وفاء لا يستحقه الإنسان، ويا أسفي لأن يدي أقصر من إيقاف هذا الجشع.
بعد الظهر، انطلقنا إلى الغابة في رحلة مثيرة للاهتمام اكتشفت فيها عوالم مخفية وأسراراً مذهلة. تعرفنا في جولتنا على أشخاص في قمة اللطف والكرم. فالكل يلقي علينا التحيات ويدعونا للدخول إلى كوخه، والبعض حمل أعلام فيتنام وتهلل بها فرحاً في إشارة للامتنان الأبدي لهذا البلد.
قبيلة التاي في فيتنام تمتلك تاريخاً طويلاً وغنياً يعود لمئات السنين. يعيش أفراد هذه القبيلة في المناطق الجبلية والغابات، حيث أقاموا مجتمعاتهم الصغيرة ويعيشون إلى يومنا هذا حياة مرتبطة بالطبيعة والأرض. بناءً على التقاليد القديمة، يعتمد أفراد التاي على الزراعة والصيد كوسيلة للعيش، وقد شرح لي بعض السكان الأصليين كيف منحت الدولة لأسر التاي أراضٍ فلاحية لزراعة الأرز في المنطقة.
شهدت حياة التاي تأثراً عميقاً من الأحداث التاريخية والسياسية مثل الاحتلال الفرنسي والحرب الفيتنامية، وقد تأثرت ثقافتهم بتلك الأحداث، مما أدى إلى شيء من التطور في نمط حياتهم وتقاليدهم. ومع تأثير الاحتكاك الثقافي، اغتنت ثقافة التاي وتنوعت، حيث امتزجت عناصر من الثقافة الفرنسية مع التقاليد لتشكل مزيجاً فريداً من التراث الثقافي. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يستمر شعب التاي في الحفاظ على هويتهم الأساسية وتقاليدهم القديمة، مما يجعلهم جزءاً لا يتجزأ من التنوع الثقافي الغني لفيتنام.
كان طريق العودة إلى إقامتنا أعلى الجبل مضنياً ومرهقاً جداً، لأننا اضطررنا إلى تسلق الجبل الذي نزلناه مجدداً. ولكن المناظر الطبيعية حولنا كانت ساحرة وتستحق العناء. بعد وصولنا، انغمست في جو أخاذ لغروب الشمس من قمة الجبل. وفي المساء، جلسنا لساعات طويلة رفقة فتيات التاي في جلسة مليئة بالتناغم والتعارف، وكانت لحظات مضحكة لا تُنسى، حيث كان علينا الاعتماد على برنامج للترجمة بسبب اختلاف اللغات. وعلى الرغم من ذلك، نشأت صداقة جميلة وقوية، وشعرت هنا كما في كل فيتنام بالكثير من الألفة والأمان.
مرت الليلة الأولى في كوخي المبهر بشكل صعب جداً بعدما استيقظت فجأة لأجد سحلية على رأسي وعنكبوتاً ضخماً يتجول في الكوخ. تسمرت وسط السرير وتركت المصباح مضاءً، وبقيت بخوفي مستيقظة أستمع إلى صوت المطر وصوت مخلوقات تصفر وتنقر في السقف. كنت أشعر أنني المتطفلة على هذه المخلوقات المسكينة وليس العكس.
في الليلة الثانية، كنت أكثر فطنة، فانسحبت من الكوخ الملكي الساحر لأتشارك الكوخ مع صديقة لي كانت أكثر خوفاً مني بعدما دخل عنكبوت ضخم إليها أيضاً، فتطلب الأمر منها الاستنجاد بالموظفين ليجدوه بعد بحث طويل مختبئاً بخوف في الخزانة ويحملوه إلى غابته مجدداً.
استيقظت على مشهد مهيب لشروق الشمس متسللة وسط مملكة جوز الهند، لتنبسط بأشعتها في السماء. سبحان من خلق وسوى. لا يمكن للمرء أن يقول إنه سافر أو غامر إذا لم يدخل إلى أعماق الشعوب ويتعرف إليهم. هكذا قررنا بعد إفطار صباحي لذيذ، الانطلاق بالدراجات الهوائية في مغامرة جديدة والنزول من الجبل للمرور على العديد من القرى المتناثرة والتعرف على السكان.
لكن مهلاً، هيهات هيهات أن تفعلوها بي مجدداً! فلقد أُجهدت كثيراً في اليوم الماضي ونحن ننزل ونتسلق الجبل وسط الغابة. قررت أن أستقل دراجة نارية لأستمتع بالمغامرة دون جهد كبير كالبقية، وهذا ما تم فعلاً. كانت المناظر حولنا مذهلة، غابات من الفواكه أمامنا وحقول من الأرز. وبين الحين والآخر، توقفنا لنستريح ونتعرف على بعض الأسر وشيوخ القرى من أقليات التاي الذين يعيشون هنا.
لم أر في حياتي أناساً راضين وسعداء مثل هؤلاء. في أكواخ مصنوعة غالباً من خشب الصنوبر أو البامبو، يعيشون مع أبنائهم حياة بسيطة جداً تقتصر على أهم المرافق فقط، ومن الجنة التي خلقها الله هنا، يأخذون حاجتهم من الغذاء. هنا، لا شيء يُلقى في القمامة وكل شيء له فائدة خاصة. عالم الطب التقليدي البديل عند أقليات التاي في فيتنام موضوع آخر، فجميع الأغصان والأوراق والأعشاب لها فائدة ويمكن استخراج الدواء منها. تساءلت عن بعض الأعشاب الموضوعة في الخارج لتجف، فشرحوا لي أنها تداوي فقر الدم.
في ترحاب لم أر له في حياتي نظيراً، استقبلونا في أكواخهم ووضعوا لنا فاكهة قطفوها وبعض الملح. على فكرة، هنا وبسبب الحرارة العالية، يضيفون مسحوقاً مكوناً من الملح والفول السوداني إلى فاكهتهم أو طعامهم لتعويض ما يفقد الجسم بسبب التعرق الدائم. أما بالنسبة للسوائل، فإن ماء ثمرة جوز الهند غني بالماغنسيوم والفيتامينات، وهذا ما أشرب طوال الوقت هنا. وتختلف ثمرة جوز الهند بين شمال وجنوب فيتنام، فهنا الثمرة أكبر ونسبة الماء فيها أوفر، أما في الجنوب فهي بالشكل الذي عهدناه في بلادنا، بنية اللون وصغيرة الحجم وطعمها حلو.
اضطُررت لإكمال الطريق بالدراجة الهوائية بعدما تعبت إحدى الصديقات. وبعد منحدرات كثيرة، انتهينا إلى نهر رائع لنركب في مجموعات مراكب خشبية مربعة الشكل يصنعونها هنا كبقية احتياجاتهم، ثم انطلقت بنا عبر النهر في جولة ساحرة. وفي المراكب، كان طعام الغذاء معداً وجاهزاً، ولأن الطعام ثقافة ومعرفة أيضاً، فقد تناولنا طعاماً يماثل طعام الجنود الفيتناميين في الحروب، وهو عبارة عن لفافات لأوراق شجرة الموز يتوسطها الأرز، ويرافقها المسحوق الذي ذكرته سابقاً وبعض السمك المجفف. هكذا كان الجنود يتزودون بقوتهم ويمكثون أياماً طويلة في الغابة.
بقينا في النهر لساعات وسط عجلاتِ الماء الضخمة وبركِ الأسماك البعض يسبح والبعض يقرأ أو يراقب الحياة الريفية بجانب الماء، بينما أخذت أنا غفوةً مريحة كوني لم أنم في الليلة السابقة بسبب ضيوفي من الزواحف. اليوم نجهز حقائبنا لنغادر العالم المذهل pù Luông وسنسافر لساعات الهانوي من أجل ركوب القطار الليلي الذي سيسافر بنا الى مغامرةٍ جديدة وبقعة أخرى في فيتنام الى مدينة Hué.
وهكذا انتصفت رحلتي الاستكشافية التي بدأتها من الشمال لننزل في مغامرتنا رويداً رويداً عالم الجنوب وأملأ قلبي وروحي وحقائبي بلحظات لا تنسى، حبست دموعي وانا احضن واودع فتيات التاي اللواتي اصبحن صديقاتي رغم اختلاف اللغات.
شعرت أن في قلبي الكثير الكثير من الفراشات والمشاعر، والكلمات التي أردت قولها لكن دموعي كانت تنتظر كالعادةِ السقوط إن تكلمت. منظرهن ومنظر الكلب اللطيف الذي كان يجلس دائماً بجانبي وينتظر خروجي امام باب الكوخ ليرافقني سيبقى راسخاً مدى العمر.
هناك بعيداً اكتشفت زهوراً لا تعرف الذبول، زهوراً ستحتفظ برقتها إلى الأبد.