أدب
علي بن الجَهم بن بدر القرشي، شاعر عباسي ولد نهاية القرن الثاني الهجري في حدود سنة 188 ه، أسرته من القرشيين الذين نزحوا إلى خراسان في بداية الفتوح الإسلامية، ثم عادت أسرته إلى بغداد بعد ذلك واستقرت فيها.
قيل إن عليًّا وُلد بخراسان ثم هوجر به صبيا إلى بغداد وكبِرَ فيها، وقيل إنه وُلد في بغداد وترعرع فيها، وعلى أي حال فهو تربى وترعرع في دار الخلافة. كان علي من أسرة مقربة من أصحاب القرار، فأبوه الجهمُ كان من رجال الدولة، جعله المأمون على بريد اليمن وجعله الواثق أيضا على شرطة بغداد.
وأخوه، محمد بن الجهم، كان مقربا من المأمون وولاّه عدة ولايات، وولاّه المعتصم دمشق، وعليُّ نفسه تولى مظالم حلوان في خلافة المعتصم. فعلي بن الجهم -كما ترى- نشأ في هذا المحيط المريح المقرب من السلطة.
أجمع أهل الأدب على أن علي بن الجهم شاعر مطبوع مقدَّم، وقد ظهر عليه النبوغ في الشعر مبكرا وهو غلام. كبِر علي بن الجهم في عاصمة الخلافة في محيط ثقافي حيوي فيه الأدباء والمتكلمون وأهل الحديث واللغويون والمغنون وأهل الصناعات، فكانت هذه كلها روافد ثقافية لهذا الشاعر الفريد.
كان علي بن الجهم يجتمع بالشعراء كل أسبوع في جامع بغداد فينشد كل واحد منهم ما قاله من شعر في ذلك الأسبوع ويتبارون ويتطاربون، فكان من أولئك الشعراء دِعبِل الخزاعي، وابن أبي الشيص، وابن أبي فنن، وغيرهم. وقد عرف علي بن الجهم في تلك المجالس أبا تمام الشاعر، فصارا صديقين مقربين وكان بينهما من الحب والمودة الكثير، ولأبي تمام أشعار في علي بن الجهم.
تأثر علي بن الجهم بمحنة خلق القرآن، فقد كان يميل إلى أهل الحديث، لأنه كان تلميذا للإمام أحمد بن حنبل، وساءه ما لقيه الإمام من بطش الدولة أثناء محنة خلق القرآن، خاصة في عهد خلافة الواثق، فكان علي بن الجهم يتألم عندما يرى المضايقات التي يتعرض لها أهل الحديث.
لكن لما تولى المتوكل الخلافة، وانتهت المحنة على يديه، فرح علي بن الجهم بذلك وعبر عنه كثيرا في أشعاره، فأكثر مدائحه كانت في الخليفة المتوكل بسبب انتصار المتوكل لأهل الحديث ضد المعتزلة. يشير ابن الجهم إلى ذلك في قصيدته الشهيرة:
عيون المها بين الرُّصافة والجسرِ – جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
حيث يقول في المتوكل من هذه القصيدة:
بِهِ سَلِمَ الإِسلامُ مِن كُلِّ مُلحِدٍ – وَحَلَّ بِأَهلِ الزَيغِ قاصِمَةُ الظَهرِ
إِمامُ هُدىً جَلّى عَنِ الدينِ بَعدَما – تَعادَت عَلى أَشياعِهِ شِيَعُ الكُفر
وهكذا وجد علي بن الجهم الفرَج مع المتوكل، ومدحه بقصائد تغنى فيها بانتصار المتوكل لأهل الحديث وكانت تلك القصائد تغيظ خصوم علي بن الجهم، كقوله مثلا في إحدى مدائحه للمتوكل:
فَأَمَّرَ اللَهُ إِمامَ الهُدى – وَاللَهُ مَن يَنصُرُهُ يُنصَرُ
وَقالَ وَالأَلسُنُ مَقبوضَةٌ – لِيُبلِغِ الغائِبَ مَن يَحضُرُ
إنّي تَوَكَّلتُ عَلى اللهِ لا – أُشرِكُ بِاللَهِ وَلا أَكفُرُ
لا أَدَّعي القُدرَةَ مِن دونِهِ – بِاللهِ حَولي وَبِهِ أَقدِرُ
ولَيسَ تَوفيقيَ إِلّا بِهِ – يَعلَمُ ما أخفي وَما أظهِرُ
فانفَضَّتِ الأَعداءُ مِن حَولِهِ – كَحُمُرٍ أَنفَرَها قَسوَرُ
وَصاحَ إِبليسُ بِأَصحابِهِ – حَلَّ بِنا ما لَم نَزَل نَحذَرُ
أئمة المعتزلة وأنصارهم، كانت تغضبهم هذه القصائد، خاصة أن المتوكل كان يُقرّب علي بن الجهم، ومكث على ذلك سنوات. لكن ابن الجهم لم يسلم من كيد الخصوم، فكان من جلساء المتوكل البحتري والحسين بن الضحاك ومروان ابن أبي الجنوب وأحمد بن حمدون، وكان هؤلاء يبغضون علي بن الجهم، لأنه كان يتعالى عليهم، فعندما يهجونه لا يجيبهم لأنه يرى نفسه أرفع منهم مكانة، لما هجاه البحتري مثلا لم يجبه، وكذلك عندما هجاه مروان بن أبي الجنوب هجاء مرا قاذفا أمه بالفاحشة، لم يجبه، بل لم يزد على أن قال بيتيه المشهورين:
بلاء ليس يشبهه بلاء – عداوةُ غير ذي حسب ودينِ
يُبيحك منه عرضا لم يصنه – ويرتع منك في عرض مصونِ
فكان هذا من أبلغ ما أجيب به!
مع الأسف لم يزل الوشاة بالمتوكل، حتى أقنعوه بحبس علي بن الجهم، إذْ لفّقوا له تهمة بأنه هجا الخليفة، فغضب الخليفة وأمر بحبسه. فقال في حبسه ذلك أعذب الشعر وأصدقه.
وأجمل ما قال في سجنه داليته:
قالَت حُبِستَ فَقُلتُ لَيسَ بِضائِرٍ – حَبسي وَأَيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغمَدُ
حيث يقول في هذه القصيدة من أبيات في غاية الروعة:
غِيَرُ اللَيالي بادِئاتٌ عُوَّدُ – وَالمالُ عارِيَةٌ يُفادُ وَيَنفَدُ
وَلِكُلِّ حالٍ مُعقِبٌ وَلَرُبَّما – أَجلى لَكَ المَكروهُ عَمّا يُحمَدُ
لا يُؤيِسَنَّكَ مِن تَفَرُّجِ كُربَةٍ – خَطبٌ رَماكَ بِهِ الزَمانُ الأَنكَدُ
كَم مِن عَليلٍ قَد تَخَطّاهُ الرّدى – فَنَجا وَماتَ طَبيبُهُ وَالعُوَّدُ
صَبراً فَإِنَّ الصَبرَ يُعقِبُ راحَةً – وَيَدُ الخَليفَةِ لا تُطاوِلُها يَدُ
وَالحَبسُ ما لَم تَغشَهُ لِدَنِيَّةٍ – شَنعاءَ، نِعمَ المَنزِلُ المُتَوَرَّدُ
لكن؛ مع ذلك كل القصائد التي أرسلها علي بن الجهم من سجنه لم تشفع له عند المتوكل وبقي في سجنه سنة، ولم يزل الوشاة أيضا بالمتوكل حتى أقنعوه بنفي علي بن الجهم إلى خراسان، فنفاه المتوكل إلى خراسان وصادر أملاكه، وأمر والي خراسان أن يجرد علي بن الجهم من ثيابه ويصلِبه في النهار ويُدخله السجن ليلا.
ولما وصل علي بن الجهم للشاذِياخ، التي هي من بلاد خراسان، نزعوا ثيابه وظل مصلوبا عاريا، ثم لما غرَبت الشمس أدخل الحبس، لكن كل ذلك لم ينل من عزيمة الرجل ولم يكسره، فقال أبياته الخالدة وهو مصلوب:
لَم يَنصِبوا بِالشاذِياخِ صبيحَةَ الــــ – ـإِ ثنَينِ مَغموراً وَلا مَجهولا
نَصَبوا بَحَمدِ اللَهِ مِلءَ عُيونِهِم – شَرَفاً وَمِلءَ صُدورِهِم تَبجيلا
ما عابَهُ أَن بُزَّ عَنهُ لِباسُهُ – فَالسَيفُ أَهوَلُ ما يُرى مَسلولا
إِن يُبتَذَل فَالبَدرُ لا يُزري بِهِ – أَن كانَ لَيلَةَ تِمِّهِ مَبذولا
أَو يَسلُبوهُ المالَ يُحزِنُ فَقدُهُ – ضَيفاً أَلَمَّ وَطارِقاً وَنَزيلا
أَو يَحبِسوهُ فَلَيسَ يُحبَسُ سائِرٌ – مِن شِعرِهِ يَدَعُ العَزيزَ ذَليلا
لَن تَسلُبوهُ وَإِن سَلَبتُم كُلَّما – خَوَّلتُموهُ وَسامَةً وَقَبولا
إِنَّ المَصائبَ ما تَعَدَّت دينَهُ – نِعَمٌ وَإِن صَعُبَت عَلَيهِ قَليلا
وَاللَهُ لَيسَ بِغافِلٍ عَن أَمرِهِ – وَكَفى بِرَبِّكَ ناصِراً وَوَكيلا
بقي علي بن الجهم في سجن خراسان إلى أن أطلِق سراحه وانتهت محنته، لكنها لم تنته إلا وهو زاهد في الدنيا وفي أهلها، فقد عرف الناس وغدْرَهم، وعرف أيضا أنه لا خير في القرب من السلطة لأنها سريعة التقلب، فقرر حينئذ أن يعيش وحيدا، وكان يكثر الجلوس عند المقابر.
ولما عاد لبغداد، لم يعد لمنادمة المتوكل، فانصرف عنه جاهه الذي تمتع به زمنا طويلا ورأى تفرُّقَ الناس من حوله وخلو داره بعدما كانت عامرة، وفي ذلك يقول:
خَليلَيَّ كُرّا ذِكرَ ما قَد تَقَدَّما – وَإِن هاجَتِ الذِكرى فُؤاداً مُتَيَّما
فَإِن حَديثَ اللَهوِ لَهوٌ وَرُبَّما – تَسَلّى بِذِكرِ الشَيءِ مَن كانَ مُغرَما
خَليلَيَّ مِن فَرعَي قُرَيشٍ رُزيتُما – فَتىً قارَعَ الأَيّامَ حَتّى تَثَلَّما
وَمَن ضَعُفَت أَعضاؤُهُ اِشتَدَّ رَأيُهُ – وَمَن قَوَّمَتهُ الحادِثاتُ تَقَوَّما
خُذا عِظَةً مِن أَحوَذِيٍّ تَقَلَّبَت – بِهِ دُوَلُ الأَيّامِ بُؤساً وَأَنعُما
إِذا رَفَعَ السُلطانُ قَوماً تَرَفَّعوا – وَإِن هَدَمَ السُلطانُ مَجداً تَهَدَّما
لم يزل سوء ظن علي بن الجهم بالدنيا وأهلها يزيد، فقرر أن يشارك في الجهاد لعل الله يكتب له شهادة تنجيه من أهل الدنيا وتنيله ثواب الآخرة، فخرج إلى الثغور في الشام لقتال الروم، وبالفعل أكرمه الله بالشهادة مقبلا غير مدبر، وحمله أصحابه وهو ينزف ويجود بأنفاسه فجعل يقول:
أزِيدَ في الليل ليلُ – أم سال بالصبح سيلُ
يا إخوتي بدُجيْلٍ – وأين مني دجـيلُ
(دجيل هو مكان إقامته في بغداد)
فأبكى من كان معه، ولما مات وجدت عنده رقعة كتب فيها:
وراحمتا للغريب في البلد الــــــــــ – ـنازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا – بالعيش من بعده ولا انتفعا
وكانت وفاته رحمه الله عام 248 هـ.
عشتم طويلا.