آراء

الصناعة البشرية الغزاوية

أكتوبر 31, 2025

الصناعة البشرية الغزاوية

كشفت لنا غزّة بعد معركة طوفان الأقصى عن معجزةٍ لا تقل عن معجزة الصمود ذاتها، وهي معجزة “الصناعة البشرية الغزاوية”. تلك الصناعة التي لا تُقاس بالمصانع ولا بالآلات، بل تُقاس بمقدار ما تنتجه من رجالٍ ونساء ثابتين على المبادئ، مؤمنين بالقضية، رابطين على الحق رغم القهر والجوع والموت. لقد كشفت لنا غزّة أنّ الإنسان فيها لا يُصنع على مقاعد المدارس الرسمية فحسب، بل في المساجد، وفي حلق القرآن، وفي المحاضن التربوية التي تُنضج العقول وتُزكّي القلوب وتُصلب الإرادات.

في غزّة، لا يُنظر إلى الإنسان بوصفه كائناً يُستهلك أو يُستثمر اقتصادياً، بل بوصفه مشروعاً إيمانياً وتاريخياً. يُربّى منذ نعومة أظفاره على أنّ وجوده رسالة، وأنّ الموت في سبيل الله حياة، وأنّ كل قطرة عرق أو دم تخرج منه هي لبنة في بناء الأمة. هناك لا يُخشى الفقر بقدر ما يُخشى الانهزام، ولا يُخشى الحصار بقدر ما يُخشى الانكسار. في غزة، تُدار معارك الإنسان قبل معارك الميدان، وتُخاض الحروب على النفوس قبل أن تُخاض على الحدود. إنّها مدرسة في صناعة الإنسان الحر، الذي يعرف من أين جاء، ولماذا يعيش، وإلى أين يسير؟.

هذه الصناعة الغزاوية الفريدة لم تنشأ صدفة، بل بدأت من حيث تبدأ الأمم الحقيقية: من المسجد. هناك يُصاغ الوعي، وتُربّى النفوس على العبادة والجهاد والصدق مع الله. ومن حلقات القرآن تتخرج أجيال تعرف أنّ الكلمة يمكن أن تكون طلقة، وأنّ الآية يمكن أن تفتح باباً للنصر. ومن المحاضن التربوية تنشأ شبكات متماسكة من الشباب المؤمنين بالفكرة، المستعدين لحملها مهما طال الطريق أو اشتد البلاء. ومن الأسرة الممتدة التي تتوارث الفكرة قبل الميراث، تنشأ تلك الروح الجماعية التي تجعل من كلّ بيتٍ في غزّة خلية رباط وصبر وإيمان.

وحين نقارن هذه الصناعة الغزاوية بصناعة الإنسان في بقية بقاع الأرض، ندرك الفارق الهائل بين من يُصنع ليستهلك ومن يُصنع ليُحرّر. في كثيرٍ من المجتمعات الحديثة يُراد للإنسان أن يكون ترساً في ماكينة الاقتصاد، أو رقماً في منظومة السوق، يُقاس بما يملك لا بما يؤمن به، ويُربّى على لذاته لا على قيمه، وعلى حريته الفردية لا على مسؤوليته الجماعية. أمّا في غزّة، فالإنسان ليس نتاجاً لثقافة الاستهلاك بل لثقافة المعنى. ليس ابن الشاشة بل ابن السجادة. ليس مخرجات نظام مادي بل ثمار تربية ربانية صاغت روحه قبل عقله، وغرست في داخله أنّ الكرامة لا تُشترى، وأنّ الحريّة لا تُمنح بل تُنتزع.

إنّ الصناعة الغزاوية للبشر هي أقرب ما تكون إلى الصورة التي أرادها الإسلام للإنسان المسلم الحرّ؛ الإنسان الذي يجمع بين الروح والعقل، بين القوة والرحمة، بين العبادة والعمل، بين حب الحياة وإدراك أنّ الموت في سبيل الله أسمى مراتبها. هو الإنسان الذي لا تذله الحاجة ولا يغريه المال ولا يرهبه الطغيان. هو الذي يعرف أنّ الجهاد ليس فعلاً عسكرياً فقط، بل منظومة قيم تبدأ من تربية النفس وتنتهي بتحرير الأرض.

خارطة الطريق لتلك الصناعة تبدأ من إعادة بناء بيئتنا التربوية على هذا المنهج الرباني. تبدأ من المسجد الذي يستعيد دوره كمحضنٍ للرجال والأجيال، ومن حلقات القرآن التي تغرس الإيمان واليقين، ومن البرامج التربوية التي تُعِدّ الإنسان ليكون فاعلاً لا تابعاً. لا يكفي أن نُخرّج طلاباً ناجحين في الامتحانات، بل نحتاج أن نُخرّج رجالاً ناجحين في الامتحان الأكبر: امتحان الثبات حين تتهاوى القيم وتضطرب الموازين. الأمة التي تريد أن تصنع “إنسان غزّة” في ديارها يجب أن تُعيد وصل ما انقطع بين التربية والرسالة، وبين العلم والإيمان، وبين المسجد والمجتمع.

لقد علّمتنا غزّة أنّ الاستثمار الحقيقي ليس في النفط ولا في الأبراج، بل في الإنسان الذي يعرف ربه، ويؤمن بقضيته، ويصبر على البلاء، ويصنع من الألم أملاً ومن الحصار نصراً. تلك هي الصناعة التي تستحق أن تُدرَّس، لا في كتب التنمية البشرية، بل في كتب النهضة الإسلامية القادمة.

شارك

مقالات ذات صلة