مجتمع
على مدى أربعة عشر عاماً، ومنذ صرخة الحرية الأولى، حمل السوريون الذين تبنوا قيم الثورة منذ بدايتها حلم النصر في قلوبهم. كان هذا الحلم حاضراً في كل لحظة فرح ونجاح وشوق أو حزن أو خسارة أو انكسار. وحين جاء النصر المنتظر أخيراً، غمرت الفرحة القلوب حد الثمالة؛ فرحة طال انتظارها، وحلم كان أقرب للمستحيل بعدما حاول العالم المتخاذل إعادة تدوير المجرم والتطبيع معه، متجاهلاً الألم والخسارات والثمن الباهظ الذي دفعه الشعب في سبيل نيل حريته.
رغم ذلك، انتصرت إرادة الشعب وجاء نصر عظيم بعد أن استيأس الناس، وكادت الأحلام أن تنكسر تحت وطأة الخذلان، غير أن الفرحة لم تدم طويلاً؛ فما إن انقشعت نشوة النصر حتى تسللت مشاعر أخرى إلى القلوب، كالحزن والضياع والارتباك.
بدأت الأسئلة الثقيلة تفرض نفسها بقوة وتطفو على السطح:
من نحن الآن؟
ماذا سنفعل بعد أن تحققت الغاية الكبرى التي حملناها في قلوبنا وعملنا لأجلها كل هذه السنين؟
ماذا بعد هذا الكابوس الذي شكل ملامح حياتنا وكان جزءاً من أهدافنا وقراراتنا واختياراتنا؟
وهل ما نشعر به من حزن مفاجئ وخوف من الغامض وقلق من القادم وتردد فيما يجب فعله يُعد خيانة للنصر العظيم؟
لماذا يشعر بعض السوريين بهذه المشاعر، وهل هي طبيعية؟
تختلف السياقات، وتتفاوت الخسارات، وتتباين تجارب الفقد والنزوح وغيرها من الظروف التي فرضتها الحرب من عائلة لأخرى، لكن يمكننا أن نتحدث عن أبرز الأسباب الكامنة وراء هذه المشاعر، لأن تفسيرها يساعدنا على تقبلها والتعامل معها والعمل على تجاوز آثارها، كما يجنّبنا مشاعر الذنب والعار.
من المشاعر الثقيلة التي قد تداهم السوريين اليوم ما يعرف بـ”عقدة الناجي”، وهو شعور بالذنب تجاه النجاة والوصول للحظة الانتصار، في حين لم يتمكن آخرون من ذلك. وقد يزداد هذا الشعور حدّة كلما كانت الروابط مع من فقدناهم أعمق وأقوى.
هي حالة تعبر عن الوهم الذي يقع فيه الإنسان عندما يعتقد أن السعادة المطلقة والراحة ستتحقق تلقائياً بمجرد بلوغه هدفاً ما أو تحقيق إنجاز معين، لكنه عند الوصول يتفاجأ بشعور داخلي بالفراغ أو الحزن أو عدم الإشباع العاطفي، ويكتشف أن السعادة شعور مؤقت.
في الحالة السورية، كرّس كثير من السوريين طاقاتهم وأحلامهم لتحقيق هدف كبير، وكانت رحلة الوصول إليه شاقة وطويلة مليئة بالتحديات، مما زاد الأمر تعقيداً. فالنصر، رغم ما حمله من مشاعر فرح عارمة، لم يكن كافياً لشفاء الندوب ولا لتعويض الخسارات.
لم يواجه السوريون النظام السابق في ساحات المعارك فحسب، بل عاشوا في حالة تأهب دائم، يحملون على أكتافهم قضية كبيرة ويعيشون من أجلها. أصبحت الثورة جزءاً من هويتهم، وكان الانتماء لها اتهاماً يومياً يواجهونه في مواقف متعددة، مما جعلهم في حالة دفاع مستمر عن أفكارهم ووجودهم.
اليوم، ومع تغير الظروف، يشعر كثيرون بشوق عميق إلى تلك الهوية النضالية ويفتقدونها. هذا الشوق لا يعني التعلق بالمحنة أو الرغبة باستمرار الألم، بل هو حنين داخلي لهوية منحت حياتهم معنى عميقاً واتجاهاً واضحاً.
في علم النفس السياسي، تعرف هذه الظاهرة بمصطلح “هوية المعركة” (Battle Identity)، حين يصبح النضال جزءاً جوهرياً من الهوية الفردية أو الجماعية، مما يمنح الفرد شعوراً بالمعنى والهدف والانتماء، لكن مع انتهاء الصراع أو تغير شكله، تشكل هذه الهوية عبئاً نفسياً وتترك فراغاً وجودياً يحتاج صاحبه إلى وقت وجهد لإعادة بناء هوية أكثر انسجاماً مع الواقع المتغير.
خلال سنوات الحرب الطويلة، لم يمتلك معظم السوريين ترف الوقت أو القدرة النفسية الكافية للحزن والحداد على كل ما فقدوه. كانوا منشغلين بمحاولات النجاة اليومية والسعي المستمر للتأقلم مع الأحداث القاسية المتتالية والعنف المستمر بحقهم، وتحمل الأعباء الثقيلة التي فرضتها الحرب. فظلت مشاعر الحزن مكبوتة ومعلقة في أعماقهم.
اليوم، بعد أن خفتت أصوات المعركة وطويت المدافع، أصبح صوت الفقدان أكثر وضوحاً وحضوراً، وباتت تطفو على السطح ذكريات الأهل والأصدقاء الذين رحلوا، والأماكن التي اندثرت، والأحلام التي تحطمت.
جاء النصر في أشد لحظات اليأس والانكسار. كان السوريون يتابعون كيف سعت الدول لإعادة تلميع صورة النظام والتطبيع معه. هذا الانقلاب المفاجئ من حالة اليأس إلى النصر العظيم دون مقدمات سبب ارتباكاً وجدانياً وخللاً في تنظيم المشاعر، وهي حالة طبيعية عند الانتقال المفاجئ بين حالتين متناقضتين.
رغم أهمية توحد السوريين على الفرح بسقوط الطاغية ورفع علم الثورة من قبل مختلف أطياف الشعب، إلا أن الفئة التي تبنت مبادئ الثورة منذ صرخة الحرية الأولى ودفعت أثماناً باهظة لأجل ذلك، تعرضت للاستبعاد والتخوين والضغط؛ انتابتهم مشاعر ضيق وحزن وغضب، وشعروا بأنهم غرباء في فرحتهم التي طال انتظارها. وقد عبر البعض عن ذلك باستخدام مصطلحات مثل “المتلونين” أو “المكوعين”، في إشارة إلى تبدل مواقف البعض مع تغير موازين القوى وتبني خطاب الثورة من قبل أفراد لم يترددوا سابقاً في إظهار العداء لها.
طوال سنوات الحرب، اضطر ملايين السوريين لإعادة بناء حياتهم مرات عديدة تحت وطأة الهجرة الداخلية والتهجير القسري، وكانت العودة إلى الوطن حلماً بعيد المنال، أشبه بسراب يتلاشى خاصة في السنوات الأخيرة. لكن مع سقوط النظام، أصبحت العودة خياراً متاحاً أمام كثير من العائلات، لكن هذا الخيار جعل السوريين أمام معركة داخلية جديدة بين الشوق للوطن والشعور بالمسؤولية لإعادة بنائه، وبين تحديات العودة الكثيرة إلى وطن متعب غير مستعد لعودة الملايين. فالعائلة الواحدة خلال أربعة عشر عاماً تفرعت إلى عائلات، وكثير من الأطفال وُلدوا بعيداً عن أرض الوطن ولا يعرفون عنها إلا ما سمعوه من قصص القهر والدمار والموت والخوف.
رغم عظمة النصر وأهميته والمشاعر العميقة التي غمرت القلوب، إلا أن الواقع لا يزال مؤلماً وإرث الخسارات لا يزال ثقيلاً. سقوط الطاغية كان انتصاراً كبيراً، لكنه لا يحمل عصا سحرية قادرة على محو آثار سنوات الحرب الطويلة بجرة واحدة.
اليوم بات من الضروري أن نتعامل مع الأزمات المتراكمة والدمار الهائل والبنى التحتية المتهالكة. فالنصر ليس نهاية طريق شاق وطويل، بل هو بداية مرحلة جديدة تتطلب وعياً وجهداً ووقتاً وصبراً طويلاً.
في لحظات التحول الكبرى تتداخل المشاعر ويختلط الفرح بالحزن، والأمل بالقلق، والبهجة بالخوف. وما يشعر به السوريون أمر طبيعي وانعكاس لحجم الحلم الذي عملوا لأجله والألم الذي مروا به. فطريق النصر لم يكن معبداً بالورود، بل كان مليئاً بالدموع والخذلان والخسارات الكبيرة.
الاعتراف بهذه المشاعر وتفهمها هو الخطوة الأولى نحو التعافي والنهوض. والتعافي لا يعني نسيان الماضي أو تجاهله والقفز فوقه، بل أن نحمله بكرامة ونحوله إلى دافع للمضي قدماً نحو مستقبل أفضل.
لسنا مطالبين بنسيان الألم ولا إنكار الفرح، بل نستطيع أن نحمل المشاعر المتناقضة كلها ونمضي بها نحو وطن يليق بتضحياتنا وأحلامنا.