مقالات سوريا
ضحى السطم
حتماً كل قارئ عربي يعرف على الأقل كتاباً واحداً من كتب أدب السجون، حيث يعرض لنا الكاتب تجربته الشخصية أو شهادة أحد الناجين من سراديب المعتقلات السياسية، فيتعرف القارئ على رعب التعذيب الجسدي والنفسي في سجون الطغاة العرب، بالطبع لأن هذا النوع من الكتب يستفز القائد العربي الذي يستنكر فضح جرائمه على العلن، تقرر الدولة الفلانية حظر هذه الوريقات من أن تقع بين يدي الشعب المرهق، لكن في كل دولة يوجد متمرد يقرر الخروج من القوقعة المغلقة، هذا المتمرد هو الذي يكتب في أدب السجون.. وهو من يقرأها أيضاً. وهنا في هذا المقال الصغير سأحاول اقتراح بعض أسماء الكتب التي تُصنف تحت قسم كتب أدب السجون ثم شرح الأسباب التي تجعل الشعب العربي يقرأها بنهم.
كتب أدب السجون تشرح آلية عمل الاعتقال السياسي، ما الغرض منه؟ وكيف يتم التعامل مع السجين المعارض؟ وإذا خرج من ذاك السرداب.. كيف هي حياته بعد النجاة؟
من منا لا يعرف رواية “يسمعون حسيسها” للكاتب أيمن العتوم؟ في هذه الرواية يجرؤ العتوم على الحديث بكل شفافية عن التعذيب القاسي الذي يتعرض له السجين السوري في معتقلات النظام البعثي المخلوع، ويخبرنا عن كل التفاصيل المؤلمة والتي تكاد تكون غير قابلة للتصديق، بدءاً من طريقة التعذيب ووصولاً إلى أفكار السجين ومشاعره. أما في رواية “القوقعة”، فيشارك مصطفى خليفة تجربة السجين الذي يُلقى القبض عليه في مطار دمشق ويظل قابعاً في سجن تدمر سيء الصيت ثلاثة عشر عاماً دون معرفة التهم الموجهة إليه، وهنا كسر خليفة كل حدود الكتابة، فهو لم يلتزم برقابة من حيث استخدام الكلمات النابية التي كان يسمعها السجين من السجان، ولا حتى التزم بمراعاة مشاعر القارئ الكرزي الذي قد يتأثر من معرفة تفاصيل التعذيب المميتة. أما عبد الرحمن منيف، فقد خرج عن القاعدة قليلاً حين ركز في روايته “شرق المتوسط” عن حياة الناجي بعد خروجه من المعتقل، كيف أصبح؟ وكيف يتعامل مع محيطه؟ وما هي الأمراض الجسدية، النفسية وربما العقلية التي يبدأ يعاني منها بعد خروجه من المعتقل. وفي رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون، ينتقد الكاتب رعب التعذيب في سجن تزمامارت المغربي، ويفكك بلسان إحدى شخصيات الرواية الذين اتُّهموا بتنفيذ انقلاب على الحاكم، أقول.. يفكك سلطة القائد العربي ومشروعيته. ثم في رواية “السجينة” للكاتبة لمليكة أوفقير، أيضاً تسلّط الضوء على عائلة الجنرال المغربي أوفقير الذين يُعاقبون بسبب محاولة الانقلاب على الملك، وهنا تبدأ رحلة الاضطهاد على مدى أحد عشر عاماً. وأختم برواية “طريق جهنم” التي هي أيضاً للكاتب أيمن العتوم، حيث يتعرف القارئ العربي على ممارسات القذافي المرعبة في السجون الليبية، كيف تعاملوا مع السجناء؟ كيف كان التعذيب؟ وكيف بُني ذاك الجدار الضخم في السجن؟
كل هذه الروايات -وغيرها الكثير- تحدثنا عن السجون السياسية العربية، فيتشكل عند القارئ وجهة نظر بديهية، أن هؤلاء الطغاة لم يحكموا إلا بعصا من خوف، وكانوا مرعوبون طوال الوقت من ثورة الشعوب، لهذا كانوا يخمدونها على مدى أعوام وأعوام.
ونأتي الآن إلى سؤال، لماذا نقرأ كتب أدب السجون؟ هل هي مجرد فضفضة؟ مجرد حبر على ورق يزيد الطين بلة ولا يغير شيئاً؟ أم أن هذه الكتب مهمة لنا ولأولادنا؟ علينا أولاً تأكيد أهمية كتابة هذه الشهادات وقراءتها والحديث عنها، فهذا النوع من الكتب بمثابة شهادات تاريخية مسجلة، ستظل محفورة في ذاكرة كل عربي، ومشاهد التعذيب المرعبة التي تُوصف فيها، بمثابة تذكير لنا ولكل قارئ بحجم المعاناة التي يعيشها المعتقل السياسي فقط من أجل التعبير عن الرأي لا أكثر.
لذا.. رغم أن العتوم وبن جلون وخليفة وغيرهم، كتبوا ما يؤلمنا سماعه أو قراءته، وجازفوا بمهنتهم ككُتّاب، وضربوا برقابة الكتابة عرض الحائط، إلا أن كتبهم أرشيف آخر يُضاف لممارسات الطغاة على شعوبهم. وحبرهم يشجع، بل يحرّض الشعب العربي على تمزيق اللاصق الذي يمنع ألسنتهم من الحديث بكلمة حق. وشهادات هؤلاء الناجين، وصرخات أولئك المفقودين ستذكرنا دوماً بأي حظيرة كنا، وكيف يجب أن نجعل بلدنا، ولماذا أصلاً ثرنا. لذا.. فهذه الروايات المليئة بالتعذيب والقتل، والمحمّلة بعبء إيصال الرسائل الموجودة في أقبية الطغاة تجعلنا نحفظ أسماء معتقلينا، ونترحم على كل شهيد قضى نحبه في ذاك الظلام، ونواسي كل أم فقدت ولدها بسبب فرعون البلاد الذي يصيح في وجه شعبه أنا ربكم الأعلى.
يمكن القول إن كتب أدب السجون مرايا لا تسلط الضوء على ما يقاسيه السجين من ألم وتعذيب فقط، وإنما أيضاً تجبرنا على رؤية الجانب الآخر من السلطة والسياسة، وتجعل العربي يعرف كيف يتصرف الطاغية ولماذا يلجأ للاعتقال والضرب والتعذيب بهذه الطريقة، ماذا يستفيد؟ وكيف يستفيد أصلاً من أجساد هؤلاء السجناء الهشة التي تنزف قول الحق؟ وإن أقلام أولئك الكُتّاب تجرأت على قول الحقيقة، لكي تربي أجيالاً لا يخافون من أحد، يصدحون في الشوارع حين يلزم الأمر، ويقلبون كرسي الطاغية رأساً على عقب.. ويستمرون بالثورة حتى النصر، حتى لو كلفهم هذا آلاف الشهداء وأربعة عشر عاماً من الموت والدمار.