سياسة

العشيرة العربية على جدران أوروبا: العودة إلى العصبية

مارس 7, 2025

العشيرة العربية على جدران أوروبا: العودة إلى العصبية

 

يلفت انتباه القارئ للتاريخ العربي عدم وجود حقبة إقطاعية فيه على نمط الإقطاع الأوروبي الذي تلا سقوط روما، رغم مرور المنطقة العربية بفترات طويلة ضعفت فيها الدولة المركزية بل وتلاشت تماماً، يُرجع بعض علماء الاجتماع العرب كالعراقي علي الوردي، ذلك إلى تغلغل القيم البدوية وتأصلها في الشخصية العربية عبر الزمن رغم مفارقة الصحراء والبادية والمكوث في المدن والحواضر، نستعيد ذلك ونحن نلاحظ ظهور مجتمعات لاجئين عشائرية في أوروبا، وقبيلة تنعش ذاتها من جديد في مكان بعيد عن مرابعها المعهودة في أرياف سوريا النائية.

 

خلال عام 2024، انتشرت في أوروبا رموز مثل 505 و515، يشيران إلى قبيلتين تقطنان أرياف شرق وشمال شرق سوريا، ويبدو أن اتخاذ كل قبيلة رمز أو رقم تعرف بها فكرة تسربت من دول الخليج العربي عن طريق العمالة السورية فيها والوافدة من تلك المناطق، و جاءت فكرة الرقم/العشيرة ضمن مجموعة من العادات والتقاليد العشائرية الأخرى لقبائل بدوية وبعيدة نوعاً ما عن مجتمعات الريف السوري و نمط حياة أفرادها، وقد تصاعدت هذه الظاهرة خلال السنوات العشرة الأخيرة نتيجةً للسياق السوري الصعب والمعقد وما ترتب عليه من غياب الدولة والتعليم في تلك المناطق.

 

خلال الأشهر الأخيرة من العام 2024 أدلى ريان الشبل عمدة بلدة أوستلسهايم الألمانية، وهو لاجئ سوري حصل على الجنسية الألمانية وأصبح أول عمدة من أصل سوري في ألمانيا، بتصريحات معادية للاجئين، إذ طالب فيها بإيقاف منح الحماية المؤقتة للسوريين والاستعاضة عن ذلك بدراسة كل ملف لجوء على حدة، كما عرّج في التصريحات على المناطق السورية النائية والبعيدة عن العاصمة، قائلاً إنها تركت بشكل متعمد دون تنمية حقيقية، مطالبا بتصنيف اللاجئين السوريين حسب مناطقهم. وبحسب الشبل فإن دمج اللاجئين من هذه المناطق النائية في المجتمعات التي لجؤوا إليها، يشكل تحدياً في أوروبا، ما يجعل المراقب يعتقد بأن مشاكل سوريا انتقلت مع اللاجئين إلى مجتمعات اللجوء، ولعل أولها مشكلة الريف السوري وتنميته الغائبة.

 

يجب التمييز بين شريحتين من اللاجئين السوريين، الشريحة القادمة قبل فترة انتشار وباء كورونا في 2020، إذ كانت السمة الغالبة لهذا الشريحة أنها تضم أشخاصاً لديهم حياتهم وعالمهم في سوريا، وجاؤوا يبحثون عن حياة جديدة وعن مستقبل لهم ولعائلاتهم بعد اندلاع حرب تسببت بهدم بلدات وأحياء كاملة في العديد من المدن، وتتميز هذه الشريحة من اللاجئين بأن لديهم مستوى من التعليم والتأهيل المهني، وتسعى جاهدة للاندماج على مستوى العمل واللغة في المجتمعات المضيفة.

 

أما الموجة الثانية من اللاجئين، والتي بدأت تقريباً بعد أفول الوباء وتجدد نشاط طرق التهريب إلى أوروبا، فهي تشمل لاجئين من فئات عمرية شابة، تتراوح بين خمس عشر حتى خمس وعشرين سنة)،خرج هؤلاء مما يسمى “سوريا المحطمة”، حياتهم تقريباً هي عمر الأزمة في سوريا أو بأحسن الأحوال كانوا أطفالا عند انطلاق الثورة، ولم يحصلوا على فرص تعليمية جيدة ولا حتى متوسطة، عاشوا في سوريا في فترة زمنية صعبة وقاسية تشمل غياب التعليم والعمل وفي بعض الأحيان الأمل، قادمون بمعظمهم من مناطق كان ينظر إليها على أنها مناطق نائية وتعاني أصلاً من غياب التنمية طوال عقود قبل عام 2011. خلق ذلك انطباعاً بأن هناك موجة لجوء عشائرية تجتاح أوروبا قادمة من مناطق شرق وشمال سوريا، ما أثار حفيظة لاجئين قدامى على وسائل التواصل الاجتماعي معتبرين أن اللاجئين السوريين الجدد بدأوا يضرون بصورة اللاجئين السوريين في أوروبا خصوصاً مع ظهور أنماط علاقات اجتماعية عشائرية طبيعية في مجتمعات الريف السوري ولكنها تبدو نافرة وغريبة في دول أوربية.

 

خلال شهر أيار/مايو من عام 2023، شهدت مدينة دورتموند الألمانية اشتباكات بين لاجئين سوريين ينحدرون من قبيلة كبيرة في ريف مدينة دير الزور السورية ومهاجرين قدامى من تركيا ولبنان. بدأ الخلاف في حي كاسترو بمدينة دورتموند بين عائلة سورية من ريف دير الزور الغربي، وبين جيرانهم الأتراك واللبنانيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية في الحي، العائلة كانت تعيش بشكل شبه منعزل عن بقية أقاربها من نفس العشيرة، والذين يعيشون في مدن ألمانية أخرى قريبة وبعيدة عنهم، في مخالفة للغالب، إذ يتجمع معظم اللاجئين ضمن مجتمعات يرتبطون معها بانتماءات مشتركة كالمدينة أو العشيرة أو القرابة.

 

في الأيام التالية لهذا التوتر، ظهرت حشود غاضبة في مدينة أسن الألمانية القريبة من دورتموند. حطمت هذه الحشود عدة محال تجارية سورية فيها، ما استدعى تدخلاً أمنياً استثنائياً ثم هدئت الأمور. كان من اللافت ظهور وجاهات اجتماعية عشائرية بين اللاجئين السوريين من منطقة الفرات في هذه الفترة، ومحاولتهم رأب الصدع والصلح مع الطرف الثاني المسبب للشجار، وقد نجحوا نسبيا إضفاء نوع من التهدئة على الوضع العام، ما يسلط الضوء على أن المجتمعات العشائرية بدأت تعيد إنتاج نفسها في أوروبا وتعيد إنتاج وجاهاتها الاجتماعية، حتى وأن كانت بعيدة عن مراكز العشيرة الكثيفة في المكان الذي يشكل عصبها وموقع قوتها.

 

هذا يفتح سؤالاً عن سبب اختيار أبناء هذه المناطق التمسك الشديد بتقاليد وعادات أساليب حياة لم تكن حاضرة في سوريا بهذه القوة؟ ولماذا يرفض هؤلاء الاندماج في أوروبا وفي نظامها الاجتماعي والاقتصادي، ويسعون للانطواء في مجموعات عشائرية ضيقة غالباً تحرمهم فرص النمو وتعلم اللغة وتطوير الذات مهنياً؟ وفي الغالب يختارون طرقاً غير شرعية للحصول على المال والنفوذ. من تتبع هذه الفئة والحديث معها نستطيع أن نقول إنها فئة من اللاجئين حديثي السن بشكل عام تحتقر العمل في أوروبا غالباً، وتراه دون جدوى ودون مستوى الطموح، وتبحث عن طرق للكسب السريع حتى وأن كان مخالفا للقانون، ويشمل ذلك العمل بشكل غير مصرح به (العمل بالأسود) والتهريب وبيع المواد الممنوعة، حتى وأن ترتب عليه ذلك سقوط صفة اللجوء أو التعرض للسجن أو الغرامة. نجد أن لدى هؤلاء الشباب استعدادا للمخاطرة ومخالفة القانون وكأنه أمر طبيعي واعتيادي، حيث توفر تجمعاتهم في المهجر ذات الصبغة العشائرية نوعاً من الحماية النفسية والشعور بالأمان، وكأننا نعود بشكل أو بآخر إلى معادلة “العشيرة ضد الدولة” حيث كان أبناء العشائر من مناطق شمال وشرق سوريا ينظرون طوال عقود إلى الدولة وسلطاتها، متمثلة بالنظام السوري كتهديد ومصدر خوف، أما فكرة دولة المواطنة والقانون فهي نموذج لم يعرفه أبناء هذه المناطق أبداً.

 

نشأت مشكلة أمنية أخرى في مدينة فيينا السويسرية خلال شهر حزيران/يونيو عام 2024، إذ اندلعت اشتباكات بين مجتمعات لاجئين من عشائر من منطقة الفرات ومجموعات عرقية أخرى قادمة من الشيشان وتركيا، وفيما يبدو للوهلة الأولى تحالف مجموعات عرقية تركية وشيشانية قديمة نسبياً في أوروبا ضد وجود اللاجئين السوريين الحديث مقارنة بتلك المجموعات من المهاجرين، وفي الأثناء قام مجهولون بكتابة رموز 505 و515 واللذين يشيران إلى قبيلتين كبيرتين في شرق سوريا على جدران الأبنية في مدينة فيينا.

 

هذه الأحداث التي استدعت تدخل قوات مكافحة الشغب ومنع التجوال في أحد أحياء مدينة فيينا، وما تلاها من مصادرة سيارات وأسلحة ومداهمة منازل، ما دفع لاجئين سوريين للحديث على وسائل التواصل الاجتماعي عن مجتمع اللاجئين القادمين من مناطق نائية أو كما يروق للبعض تسميتها بـ”المناطق النامية”، والتي تشمل المجتمعات العشائرية في شمال وشرق سوريا، ويشار فيها تحديداً للمنطقة الممتدة من منبج غرباً حتى البوكمال شرقاً على امتداد نهر الفرات، في هذه البيئة التي تشكل العشائر الغالبية العظمى من سكانها.

 

رغم كل هذه التخوفات من مجتمع اللاجئين القادمين من الريف السوري، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن موجة اللجوء الهائلة خلال العشر سنوات الماضية، يعد رافداً لسوق العمل الأوروبي الذي يعاني من مشكلات شيخوخة المجتمعات الأوربية، وما يترتب عليه من تزايد أعداد المستفيدين من معاشات التقاعد، ما يجعل الحكومات الأوربية تتجه نحو الاستفادة من هذه الهجرة بما تحمله من فئات أكثر شباباً.

 

شارك

مقالات ذات صلة