والتقت غربتي بغربة قرطبة، فمضيت أحضن أسوارها وأغالب قهري فيغلبني. وكدت أنسى أنني الغريبة، وأنني داخل عزة الأوطان، لولا أن أوقفوني على مدخل المسجد الكبير دوناً عن جميع الزائرين، لتقترب مني شرطية وتخبرني أنهم يسمحون بدخولي، ولكنني ممنوعة من الصلاة! لو أن صقر قريشٍ بجانبي الآن أو أحد البواسل الأشداء، لفُصلت الرؤوس عن الأجساد.
جامع قرطبة، الذي يُعد أحد أعظم المعالم الإسلامية في العالم، شُيد بعد فتح العرب للأندلس عام 711م، واستمر بناؤه وتوسعته على مدى قرنين من الزمن، بدءاً من عهد عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. أصبح الجامع رمزاً للمعرفة والحضارة الإسلامية، حيث اجتمع فيه علماء وفلاسفة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. تميز الجامع بتصميمه المعماري الفريد الذي يجمع بين التأثيرات الإسلامية والرومانية، مما جعله واحداً من أهم المعالم المعمارية في العالم. ورغم تحويله إلى كاتدرائية عام 1236م، حافظ على طابعه الإسلامي المعماري.
مضيت بين جدرانه وأسواره وأحزانه، فقد حافظوا على هيكله الإسلامي وبنوا داخل حصنه كاتدرائية، كما فعلوا بمجمل المساجد الأندلسية التي لم يقوموا بتدميرها. الله الله ما أجمل قرطبة وبيوت قرطبة وهواء قرطبة! يا أصدقاء، كل شيء فيها مذهل ومحبب. ولولا تأثري بالأحداث التاريخية، لتمنيت أن أعيش فيها.
قرطبة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت منارة للعلم والفكر والفن. في العصور الوسطى، كانت عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس، وبلغت ذروتها في عهد عبد الرحمن الناصر وعبد الرحمن الثالث. كانت موطناً للتنوع الثقافي والديني، حيث تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود في سلام نسبي، وأسهموا معاً في بناء حضارة مزدهرة.
مضيت إلى المدينة القديمة، وتفرجت على حضارتنا التي يكسبون منها الأموال الطائلة. كل ما يباع ملكنا؛ المجوهرات العربية، الثياب، لوحات الخط العربي، والمشغولات اليدوية بأشكالها المختلفة. ولولا حضارة المسلمين وآثارهم الخالدة التي تدر عليهم يومياً أموالاً طائلة، ماذا كانوا ليقدموا غير رقصةِ الفلامنكو؟ وأجزم الآن أنهم متحسرون على ما هدموا وحطموا من قصور ومآثر ومساجد، ولكننا الأشد حسرة بما فقدنا.
وتركنا الأزمنة بيننا تتلاشى، وتركنا الدروب الأندلسية للأشواق. من قال إن الأبواب لا تشعر؟ من قال إن الجدران لا تتذكر أهلها، ولا ترى دماً على عتبات نورها يُراق؟
والتقت غربتي بغربة قرطبة، وتركنا الورد العربي يزهر على طولِ الجسر، ورأيت أفراحاً وأعلاماً تشبهنا. رأيت صبياناً بسيوف خشبيةٍ على مداخلِ الأسواق، وبدأت الكُترة تعزف أمسها، فشعرتُ بغبارِ جيشٍ يمر إلى ساحات المجد، شعرتُ بخيولٍ عربيةٍ تصهل في الأعماق.
فكيفَ نواسي بعضنا البعض؟ كيفَ أحرر طيوركِ، يا حرةَ الخاطرِ والأحداق؟ كيف يا قرطبة، أذرف الدموع فخراً وحزناً؟ كيفَ أصرخ خارجَ النصِّ والأوراق؟