أسفار
شعورٌ لا أستطيع وصفه؛ حزن وفخر يعبثان بشغافِ قلبي في الأندلس. بعد أن وصلتُ يا أصدقاء واتخذت من ماربيا مقرًا لي في هذه الرحلة الأندلسية التي حملت في طياتها عبق الحنين، كانت محطتي الأولى “رندة”. وبعد طريقٍ صعبٍ مليء بالمرتفعات التي تسلب الناظر عقله بجمال المحميات الطبيعية وغابات الزيتون الممتدة على طول الطريق، وصلت إلى هذه المدينة البيضاء التي تقع على مرتفعٍ يتجاوز الألف متر. خطفتني رندة بجمالها وشعرت أنها عروسٌ حزينة تحييني من بعيد.
لقد ظلت رندة تحت الحكم العربيّ الإسلامي طيلة ثمانية قرون يا أصدقاء، حيث كانت إحدى الحواضر الأندلسية المزدهرة بفضل موقعها الاستراتيجي وطبيعتها الخلابة. أسسها الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأصبحت تحت الحكم الإسلامي في القرن الثامن الميلادي، حيث عرفت فترة من الازدهار والنمو، لتصبح مركزًا حضاريًا مهمًا. في عصر الدولة الأموية في الأندلس، كانت رندة معقلاً للعلماء والشعراء والفلاسفة، ممن أثروا المكتبة العربية الإسلامية بكتاباتهم ومؤلفاتهم. من أبرز الشخصيات التي تنتمي لهذه المدينة الفيلسوف والعالم الشهير ابن رشد، الذي عرف بدفاعه عن الفلسفة وشرحه لأعمال أرسطو.
لكن رندة لم تكن مشهورة فقط بثقافتها وعلمها، بل كانت أيضًا معروفة بمعمارها الإسلامي الرائع. فقد بُنيت فيها القصور والمساجد التي كانت تُظهر عظمة الفن الإسلامي، وكان من أشهر معالمها مسجد رندة الكبير، الذي تحول لاحقًا إلى كنيسة “سانتا ماريا لا مايور” بعد سقوط المدينة.
عند التجول في شوارع رندة الضيقة والمعبدة بالحجارة، يُمكنك رؤية بقايا تلك الحضارة العريقة في كل زاوية. الجسور الثلاثة الشهيرة، وأبرزها “بوينتي نويفو”، الذي يُعتبر رمزًا للمدينة اليوم، كان شاهدًا على تلك الحقب المتعاقبة، حيث يربط بين جانبي المدينة الواقعة على حافة جرفٍ صخريٍ مذهل.
مشيت بين جسورها العريقة، ووقفت متألمة أمام كنيستها التي كانت في السابق مسجداً يتعالى فيه صوت الأذان. وعلى الرغم من محاولات طمس آثار الإسلام، إلا أن كل حجرٍ وجدارٍ وبابٍ في رندة يحكي ما كان. وما زال الحنين للأندلس يجذب القلوب من كل حدب وصوب.
تذكرت مقطعًا أحفظه للشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي، الذي قال وهو يرثي موطنه بعد السقوط:
“لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ
فلا يُغَرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيّامُ كما شاهدتُها دُولٌ
من سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدّارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ”
وتستمر الرحلة…