سياسة
تصفيق حاد، وصفير مرتفع، وارتجاجٌ للقاعة بمئات الأيدي التي أتعبت ما بعدها، وكفوف احمرّت حتى تكاد تُبتر وهي تحيي مصاص دماء، وأقدام وقفت خمسين مرةً في حركة متعجلة محمومة مذلّة لتكرّم هذا الوضيع، الذي يجلس إبليس نفسه في مرتبة أعلى منه، وهو في قاع الدركات على الإطلاق؛ مشهدٌ عبثي يليق تمامًا بالواقع المخزي، بالوجه العاري من كل مسحوق، وبالسوأة المكشوفة دون أي سترة أو، وبالكواليس المفضوحة دون أي ستار، وبالديمقراطية الأكبر في العالم، وبالحرية الأعلى، وبالنموذج الأمثل، الذي يجب على الإنسان الاحتذاء به، أو العيش في كنفه، أو الانسحاق تحت هيمنته وسطوته.
لطالما كان ذلك النموذج الغربيّ، والأمريكي تحديدًا، هو ذروة آمال “المتغرّبين” الجدد، دعاة العدالة الزائفة، والحقوق الوارفة، دون اعتبار لدين أو مجتمع أو قيم، وإنما هي الحرية المطلقة كما صوّرها السيد الأمريكي، بقبعته العالية، وهو يحاضر الإنسانية في أعرق مبانيه وبيوته البيضاء والبيضاوية وذات القباب، وهو يسحر المريدين ويجذب المنبهرين إلى أكذوبته وأوهامه، فيديرهم في فلك يظنون أنهم فيه أحرارًا، والحقيقة أنهم تحرروا من الدوران حول كعبة من صنع الله ووفق ناموسه تلزمهم بما ساد به الأوائل وعزّ به الأفاضل، إلى بيت من صنع بشريّ ووفق قوانين وضيعٍ يوجههم في ساقية، كثيران مغماة بقطع قماشية حريرية، تعميهم عن الرؤية لكنها تسحرهم بملمس الحرير، ليدوروا مغيّبين فيما ذُلّ به الأراذل.
لكن الحقيقة اليوم تتجلَّى والمشهد لا يحتاج أي وصف، كيوم فرقان مهيب بعد حدث جلل، وعلى المرء مهما كان أصله وفصله أن يختار بين أحد فريقين، حق وكرامة ودماء وأشلاء ومقاومة وثورة وتمرد، أو تلك الصفوف من العبيد في الكونجرس الأمريكي وهم يصفّقون بحرارة لمجرم حرب ومجرمٍ ضد الإنسانية ومصاص دماء وآكل لحوم بشر وقاتل متسلسل لدرجة ذبحه خمسين ألف إنسان دفعة واحدة معظمهم من النساء والأطفال؛ إلى من سينتمي العاقل ولو كان يهوديًّا حتى؟ أي هوية سيحمل ولو كان أمريكيا؟
ثم تخيل معي ذلك العالم الذي تُطهى على العشاء فيه أشلاء متطايرة، وتُشرب به الدماء في كؤوس الخمر، وتعمل العظام الصغيرة للأطفال كسلّاكات أسنان، ثم يذهب فيه الرؤساء والمسؤولون وصناع القرار على الدراجة إلى وظائفهم في مشهد سينمائي يدغدغ المشاعر، ليحاضروا الدنيا من منابرهم المصنوعة من أجسام مسحوقة وهياكل عظمية، عن الحرية، والعدل، وحقوق الإنسان -الذي قتلوه بالفعل قبل قليل-.
ثم يسافرون إلى بلادنا، ذلك المكان “ساحة الرجعية والوحشية والتخلف” كما يقول نتنياهو، ليحولوه إلى ساحة للازدهار، وشرق أوسط يليق بأهله، ولو كان سيخلو من أهله! فيُستقبلون كما استُقبل نتنياهو، استقبال الفاتحين في قصور الملوك والأمراء، يقدمونهم للأمة وللمسؤولين على أنهم النموذج الذي يطمحون الوصول إليه، أو على الأقل نيل رضاه، فحين يُثني عليك الأمريكان فكأنما حيزت لك الدنيا، أو زُحزحت عن نار الرجعية العربية والإسلامية والشرقية، وانضممت -روحيًّا- إلى المعسكر الغربيّ، الذي يحكم هذا العالم ليس كأنه مالكه -رغم فداحتها-، وإنما يحكمه كأنه إلهه وخالقه، يحاسبه ويلزمه، ويثني عليه أو يسخط عليه، ويصدر الحكم من المكان ذاته، من تحت قبة الكونجرس الأمريكي!
اليوم أدركت الشعوب بذلك المشهد -الذي لم تكن لتتخيله قبل طوفان الأقصى بهذا الوضوح- أنها تنفخ في “قربة مخرومة” حين تستجدي هذا وذاك تنال حريتها، فتذهب تصليّ في الكونجرس الأمريكي أو للكونجرس الأمريكي طلبًا لإنقاذها من هذا الحاكم المتوحش، وتنام على الأرصفة أمام مقار حقوق الإنسان والمحاكم الدولية والجهات العالمية تسوّلا وتوسلًا لحقوقها المشروعة، راجيةً من “أسياد العالم” أن يغيّروا قطعةً في “البازل”، أو أن يبدّوا عروسًا مكان عروس، أو أن يرضوا بأي تغيير آخر في الخطة، غافلين أو مغفّلين عن أن من أتى بهؤلاء الطغاة المتوحشون هم أولئك السادة النواب والمسؤولون وأصحاب الرأي والقرار، لأنك لا قيمة لك لديهم إلا إذا كنت جزءًا ضروريا من الخطة.
المعركة اليوم مكشوفة تمامًا، وهي لحظة محورية في الوعي الجمعي للشعوب الحرة والأمم التي ترجو تحررها، بأن هؤلاء هم خصومنا الحقيقيون، وليسوا أولياء أمرنا ولا ولاة أمرنا، وأن المولون علينا من قبَلهم -وإن شجبتهم بيانات الحقوق والحريات والإفراج عن المعتقلين- ليسوا إلا وكلاءهم بالتراضي، فيعنفونهم أمامنا بينما يربتون على أكتافهم في الغرف المغلقة، وأي تهديد لهم هو تهديد للمنظومة كلها التي تسحق الشرق وتحتله دون مجهود أكثر من مجرد انقلابات في دول لها وزن وقيمة، ثم سيتولى الطاغية البقية للحفاظ على كرسيه الباطل. فمن يستجدي اليوم الغرب ليأخذ حقه في الشرق إلا أحمق في غيبوبة منذ عام؟
اليوم، نشهد تلك اللحظة من تعرية الحلم الأمريكي، وتجريده من أقنعته الملونة والمتعددة، لهي لحظة تاريخية لا بد أن يستثمر بها أحرار العالم، كهؤلاء الذين اجتمعوا في قاعة الكونجرس نفسه يلعنون المكان الذي يُستضاف فيه مجرم كهذا، وهؤلاء الذين وصل بهم التقزز من معاونة طاغية هذا الزمان إلى تنكيس العلم الأمريكي ورفع الفلسطيني، وإلى حرق راياتهم الوطنية برفقة دمى نتنياهو، بينما يرفعون اسم فلسطين وغزة وحدهما عاليًا، على أنهما النموذج الأمثل الذي يجب أن يحتذي الإنسان بحذوه، في دفع أثمن ما يملك في سبيل أنبل ما يرجو، حتى ولو كان هذا هو الخيار الأخير قبل أن يفارق الحياة.
مجددًا، يصفقون، بلا نهاية، يصفقون بحرارة ودون هوادة، حتى ولو أرادوا التوقف فإن كفوفهم تعمل بسرعة أكبر، تسابق نفسها، تضرب بقوة وحمى، يحاولون وقفها وهي تأبى إلا أن تكمل التصفيق حتى تذوب العظام، يحاولون حتى بترها فترفض إلا أن توصل الرسالة التي خُلقت لأجلها في هذا المشهد المهيب، تحاول أن توقظك أنت، تصفّق بجوار أذنيك وأمام عينيك، ولو كان الظاهر أنها تصفق لقاتلك، تلعن أصحابها وتترجاك بعيدًا عن أسماعهم ومرآهم: أرجوك أفق! هؤلاء أعداؤك فقُم!