تأملات

“مَنطقة” الجُبن.. وفلسفة الخيبة!

يوليو 11, 2024

“مَنطقة” الجُبن.. وفلسفة الخيبة!

تسجن غزة، تحاصر وتكبل يداها في الأصفاد، وتوضع رقبتها على المقصلة، وتُسنّ السكين، أمام ملياري إنسان من إخوتها، وخمسين دولة من جيرانها وأهلها، والجميع يتفرج، يتابع المشهد، البعض يصرخ، والبعض يَستصرخ، والبعض يُستصرَخ، دون أن يتحرك واحد من الثلاثة، بعضهم عاجز، وبعضهم معجَّز، وبعضهم معجِّز، وبعضهم يمنع بعضًا عن النجدة، ويعطّل السفاح أي طاقم قد ينقذ الجريح، ويحجب أي فرقة تحول بينه وبين افتراس الضحية، ويولّي بعض مجرميه من قطاع الطرق على تلكم الجموع المليونية الغفيرة، حتى لا تنهار كالسيل من علٍ فوق رأسه فتغرقه وأعوانه، وكلنا أمام غزة، التي تمد يدها راغبةً في لقمة تسد رمقها، أو شربة تبل ريقها، بينما تقاوم باليد الأخرى تحاول انتزاع السكين وغرسه في رقبة مصاص الدماء الذي يضع ركبته فوقها، بينما تتسلل هي من تحته، تنسلّ من بينه، ونحن ما زلنا في المشهد، لا نغيث أيًّا من اليدين بما تحتاجه، لا طعام ولا مقاومة. 


ذلك هو المشهد دون إنكار من أحد، لا المجرمون ينكرونه، ولا الضحايا، ولا المتخاذلون، ولا السفلة المتواطئون. فالذي يقاوم لا أحد ينكر عليه مقاومته، ولا أحد يقول إنه رمى نفسه النار أو ألقى بها إلى التهلكة، ولا أحد يجرؤ على قول إنه بينما أراد تحرير نفسه وأرضه وعرضه ووطنه ضيّع أهله وارتكب حماقة القتال، ومقارعة الظالم المتضخم المتوهّم، اللهم إلا أصحاب القلوب التي توغلّت فيها قصة عشق مقززة بين القاتل وإمعته من زمرة المراهقين المفتونين به، وهو قاتل إخوانهم وأهلهم، لكنهم استحالوا بيادات في أقدام جنوده، ورصاصات في بنادق قناصته، وبارود في أطنان متفجراته، لكن عدا هؤلاء لا ينكر القاصي أو الداني مدى شجاعة الكف التي تلاطم المخرز.


ولكن، ياللعجب والأسف، أن نرى من قومنا مَن لا يكتفي بخذله لإخوته، وتركه لهم يقاتلون وحدهم، دون نصرٍ بفعلٍ أو بحركة، فيستخدم ما تبقى له من شرف وماء وجه في أن يستخدم الكلمة للسخرية والتنظير والاستظراف -رغم سماجته- للتندّر والتفكّه على أشرف أهل الأرض ممن يقاتلون أعداءهم بنبل وجسارة، فيغيرون حسابات الدنيا، ويمضون بسنة الله في الكون، ليدفعوا بأجسامهم وأرواحهم وأعمارهم قومًا ظالمين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فيأتي النكرات لينكروا على المغاوير المجهولين فعلهم، ويحاولون لومهم على كلمة الحق، ودحر الباطل، وجلد السلاطين بألسنة لا تخشى في الله لومة لائم!


محاولات مستميتة، يحاول بها الساكت عن الحق تبرئة نفسه، وهو متخاذل عن نصرة دين الله بشيء عدا القليل، غائبًا عن ساحات الوغى، وهاربًا من ميادين المعارك والقتال، وفارًّا في أيام الزحف ولو بالحرف، لينظّر على الذين اختاروا الطريق الشاقة، وسلكوا لله الفعل والقول معًا، وكان فهمهم للدين فهم الحق والباطل، فهم التدافع والشهادة، فهم التوبة والأعراف والأنفال وآل عمران، فهم آيات القتال والجهاد والمراغمة لا آيات الميراث والطهارة والطلاق والتعدد وحدها، فهمَ الأبرار الأخيار من أحباب رسول الله وجند الله وخاصته، حين ينزل عليهم القرآن فيدفعهم إلى أن يلزموا الدروع والسيوف والرماح، لا الترهبن في المحاريب، ويسكبوا الدماء ويصدحوا بالتكبيرات، لا يطلّوا عبر تيك توك مستعرضين قدراتهم المحدودة في جعل الدين محتوى فكاهيًّا.

 

أي ذنب وأي معصية وأي خطيئة لدى ابن آدم، مهما كانت ثقيلة وكبيرة وعظيمة في حق الله، فالله فتح للعبد فيها باب التوبة، وإنها لا تنتقص من قدره وآدميته وإخلاصه حين يعود منها بارًّا تائبًا خاضعًا، ولا يحق لإنسان أن يقرّعه بما ارتكب، لكن أن تنظّر على الزاحفين للحق، الناصرين لله، المنصورين به، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، والذين صدقوا الله وصدقهم، والذين نصروا الحق ولو بالكلمة فقالوا “ربِّ السجن أحبّ إليَّ مما يدعونَني إليه”، فتخذلهم، وتثبطهم، فذلك من فعل المرجفين في المدينة، والذين كره الله انبعاثهم فثبطهم، والذين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، “وفيكم سماعون لهم”.

 

ذلك ليس ذنبًا ولا خطيئة، وإنما نذالة ووضاعة، فلا يكتفي الجبان بجبنه، والجبُن للمؤمنين وارد “أيكون المؤمن جبانًا؟ قال نعم”؛ ثم لا يكتفي المتخاذل بخذله، والخذلان ينزع عنه صفات من إسلامه، فالمسلم أخو المسلم لا يخذله؛ ثم لا يكتفي الساكت بسكوته، وإن كان السكوت يلبسه صفات من الشيطان، “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، وإنما يتجرأ ويتبجح بعد كل هذه النقائص والرذائل والمقابح، أن يضع منطقًا لجبنه، ويقولبه في إطار “الحكمة”، كأنه عالم فذٌّ في زمانه، بينما العلماء الأفذاذ الحقيقيون، لا غيرهم، في النفق، ثم يتفلسف ويفلسف خيبته، ويحاول تزيين سوءته بدلًا من مواراته، ليقول للناس إن ورقة التوت لم تسقط!

 

والحقيقة الجلية أن الطوفان غيّر فهمنا لكل شيء، وأعاد تعريف الدنيا وشرح مفاهيم الدين بزوايا لم نكن لندركها من قبل، فعرفنا كيف لا تكون اللحية دليلًا على التقوى، ولا يكون اللسان برهانًا على العقل، ولا تكون البسمة دليلًا على التسامح، فكثير ممن احتلوا فلسطين ذات يوم، أتوا على ظهر مراكب، بلحى طويلة، وابتسامات عريضة، وألسنة بليغة، تجرؤوا بها ذات يوم على مجادلة الله عز وجل بذاته، فإن اختلفت مشارب البعض جمعتهم المقابح، ووضعتهم على السواء، في زمرة الظالمين، وأعوان الظالمين، وأبواق الظالمين.



شارك