لم تجف بعد الأقلام الكثيرة التي كتبت عنه وماتزال، غارقة في حبر التحليل والبحث عن كنه تلك الشخصية الجدلية وفحوى اللغز الذي قض مخيلة الكبير والصغير. فلم يحدث أن أعلنت جماهير عن قصد أو غير قصد انتماءها للصوت أولا، ونسجت معه علاقة انتظار وترقب بين محطة وأخرى من محطات حرب طاحنة تدور رحاها على أرض غزة. إنه بلا منازع الحاضر الغائب، الشهير المجهول، السر المعلن، والكثير الكثير مما اجتمع في “أبو عبيدة” نجم المعركة وصوتها خلف كوفية، والاسم الساطع في سماء القطاع وبين أزقته وعلى رماله.
ببزته العسكرية وملامحه الضائعة استولى الفارس الملثم على القلوب وخطف الأنظار وهو المتواري عن العيون. برع بتقديم السردية القسامية لمجريات الميدان العسكرية، يطل بين الفينة والأخرى ليملأ جوفنا بما ننتظر ويشبع حماسنا لبطولات وإنجازات يسجلها الحاضر الفلسطيني بقبضات المرابطين ودمائهم.
في صوته أثير حرية، وأنين أمة، وصدحات رجم، ودوي ثأر، ورنين نصر قادم، وسيمفونية أمل وذبذبات هزيمة تؤرق العدو. من هو؟ أين هو؟ أسئلة العدو والصديق. كل ما نعرفه، هو ظهور الملثم للمرة الأولى عام ٢٠٠٦ ناطقا عسكريا باسم الجناح العسكري لحركة حماس حيث أعلن حينها عملية “الوهم المتبدد” التي انتهت بمقتل جنديين إسرائيليين و أسر الجندي “جلعاد شاليط” ومنذ ذلك الحين ومع كل جولة، يخرج أبو عبيدة بصوته الصادح خلف كوفية حمراء، ليبدد أوهام العدو، ناطقا بالحق ومهندسا محترفا لحرب نفسية وإعلامية تفضح روايات الاحتلال وتفند أكاذيبه.
ملأ الملثم فراغ الشاشات في زمن التبلد الفكري والاسترخاء الذهني وشيخوخة اليأس والاستسلام والخطى العرجاء، فظهر من جديد ليطوف على جغرافيا الميدان و السياسة، ومحطات الدين والتاريخ في طوفان الأقصى، واضعا جبهة السابع من أكتوبر على صراطها المستقيم، بصدق النص وشرف الكلمة وفصاحة اللغة وبلاغة الحرف، وقرآنية المعاني ونبوية الحديث والرسالة، مشكلا وعي جيل جديد لم تهزمه الغزوات الفكرية والثقافية القادمة من وراء البحار. فغدا هو الكثير وهم القلة في زمن عزت فيه المنابر بالخطباء باستثناءات قليلة، وليس غريبا أن تصدر اسم “أبو عبيدة” محركات البحث الالكترونية مرات عدة، لاسيما عندما يطل على الداخل والخارج ليمطرنا ببياناته النارية ويتلو آيات النصر ويكشف عورات المتخاذلين، فنلتمس ابتسامته وغضبه بين هدير السطور و هدوء العبارات، ولغة جسد منسجمة مع خطبه الحربية، وسبابته المرفوعة في وجه العدو ومستوطنيه.
لم تسلم المواقع والشاشات من عواجل الخبر الذي أذاع زورا ومرارا مقتل الرجل، في غارة جوية حينا وفي عملية اغتيال حينا آخر، ليخرج الشبح من جديد محاصرا أولئك بجبنهم وخيانتهم وفضائح عصرهم. فتتراجع الحسابات وتتهاوى الأحلام الغابرة، ويعود الجمع إلى قواعدهم يبحثون عبثا ويهربون عبثا من المواجهة إلى وكر المؤامرات.
أما صوت غزة متجسدا بأبي عبيدة ورفاقه الشرفاء فيبقى يعلو كل الضجيج، يثبت المعادلات ويرسخ القواعد و يؤسس لغزة مختلفة ولفلسطين جديدة هي أكبر من كل الغارات والمذابح، هي مرتبة شرف على صدر الإنسانية ونيشان وفاء للقدس والأقصى. أما نحن التواقون للحرية والعدالة والحق فسنبقى نسأل عنك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، من أنت وأين أنت ومتى تنزع لثامك؟ وحتى ندرك الإجابات، سلام عليك وأنت تقاتل بالصوت وتقود جبهة الكلمات، وصرخات أسود الميدان من على منصة الفتح المبين، وريثا شرعيا لخطباء العرب نجاهد معك ونختم معك كما تختم دائما “إنه لجهاد نصر أو استشهاد”.