“بكرة جاييكم الدور واحد واحد لباب داركم.. ع شو بتتفرجوا”.. كانت هذه صرخة شاب فلسطيني هاجمت عصابات المستوطنين منزله وعشرات المنازل والممتلكات الأخرى على عدة أيام في قرية دوما جنوب نابلس في منتصف أبريل/نيسان الماضي٬ والأمر ذاته وقع، وما زال، في العديد من القرى الفلسطينية الأخرى بالضفة الغربية٬ خلال الأشهر الماضية.
مشهد آخر مؤلم وقع في قرية “مسافر يطا” جنوب الخليل٬ حيث اقتحمت مجموعة من قطعان المستوطنين منزل عائلة جبارين في منتصف أيار/مايو الماضي٬ تلصصوا داخل المنزل ودخلوا حظيرة الأغنام٬ وجلسوا على الأرائك في الساحة والقذارة تبدو على وجوههم وثيابهم٬ وبدأوا في لف سجائرهم وتدخينها٬ وسألوا العائلة الفلسطينية إن كان هناك ثمة قهوة للشرب!
عربدة في الليل والنهار يتلذذ بها المستوطنون٬ برعاية حكومة نتنياهو وسلطة عباس في رام الله٬ قتل للمزارعين بدم بارد٬ حرق للممتلكات والمنازل٬ إبادة الماشية٬ تسميم لآبار الماء وإغلاق للصنابير بهدف التعطيش٬ تدمير وقلع للأشجار٬ قطع للطرق ورشق لسيارات الفلسطينيين وحرقها٬ وغيرها الكثير من الجرائم التي لا تتوقف٬ بل تتسع ويتم تتويجها بتوسيع الاستيطان والاستيلاء على آلاف الدونمات من أراضي الضفة في وضح النهار.
بحسب أرقام الأمم المتحدة فقط، نفذت مجموعات المستوطنين المدججين بالسلاح أكثر من 1000 هجوم على الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في الضفة الغربية، مما تسبب في سقوط العديد من الشهداء والجرحى وتدمير مئات الممتلكات.
وهذا الأسبوع٬ وافقت حكومة الاحتلال على أكبر عملية مصادرة للأراضي في الضفة الغربية منذ اتفاق أوسلو المشؤوم قبل أكثر من ثلاثة عقود، وتشمل 12 ألفاً و700 دونم في منطقة غور الأردن. وتأتي عملية ابتلاع الأراضي، التي تمت الموافقة عليها أواخر الشهر الماضي ولكن لم يتم الإعلان عنها إلا يوم الأربعاء 3 تموز/يوليو، بعد الاستيلاء على 8 كيلومترات مربعة من الأراضي في الضفة الغربية في آذار/مارس الماضي ونحو 3 كيلومتر في شباط/فبراير.
كما أعلن وزير جيش الاحتلال غالانت في 22 أيار/ مايو الماضي إلغاء قانون “فك الارتباط” للمستوطنات التي أخليت قبل 19 عاماً في شمال الضفة الغربية، ما يعني العمل على إعادة بنائها وإعادة المستوطنين إليها دون أي رادع أو عائق يذكر.
ومنذ بداية عام 2024، أعلن كيان الاحتلال عن تصنيف 23 ألفاً و700 دونم من الضفة الغربية على أنها “أراضي دولة”٬ وهذا كله يجعل عام 2024 -حتى الآن- يشهد أكبر عمليات استيلاء إسرائيلية على الأراضي في الضفة الغربية منذ عقود٬ بحسب منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية٬ التي قالت أيضاً مطلع هذا الشهر يوليو/تموز٬ إن حكومة نتنياهو تنوي الإعلان في غضون الأيام القادمة عن بناء 6016 منزل جديد للمستوطنين بالضفة، وبذلك سيكون مجموع المنازل التي قرر الاحتلال إنشاءها وتسليمها للمستوطنين منذ بداية العام الحالي فقط 9639 منزلاً.
وهذا كله هو تمهيد للقضاء على أي “أضغاث أحلام” حول إقامة دولة ما٬ على ما تبقى من جزر معزولة بالضفة٬ كانت تفكر بها السلطة الفلسطينية٬ وبالتالي فإن الضم الكامل لهذه المنطقة (يهودا والسامرة كما يسمونها) التي تمثل ركيزة أساسية في العقيدة اليهودية ولا يمكن التنازل عنها أو التسامح مع بقاء الفلسطينيين بها٬ يحدث بالفعل٬ ولا يمكن لنا بعد الآن وصف عملية الضم بأوصاف زمنية تدل على حدث ما سيقع في المستقبل.
ضم الضفة يحدث بالفعل والتهجير سيتبعه٬ والوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش أطلق العنان لنفسه بموجب السلطة التي في يده لإدارة “دولته” للأراضي المحتلة بالضفة وحكمها عسكرياً٬ فالرجل يعد “جيش المستوطنين” بما لم يعدهم أحد آخر في تاريخ الكيان٬ وهو يعرض على الملأ خططه لضم الضفة في مؤتمرات حزبه “الصهيونية الدينية”٬ ويقول في أحدها الشهر الماضي: “جئنا لاستيطان الأرض وبنائها ومنع تقسيمها وإقامة الدولة الفلسطينية لا قدّر الله.. وأتعهّد إليكم بتغيير الخريطة هناك٬ بشكل كبير”.
وسلطة عباس لا يجب وصفها بأنها تقف “متفرجة” على “تغيير الخريطة” الذي يعمل عليه سموترتش٬ بل هي شريكة في تسليم ما تبقى من الضفة وتحويلها لدولة للمستوطنين٬ وذلك في كل مرة تلاحق فيها مقاوماً وتغتال آخر بدم بارد٬ وفي كل مرة تفكك فيها عبوة ناسفة زرعت في شوارع مخيم جنين أو نور شمس في طولكرم٬ وفي كل مرة تنزع بها سلاحاً من شاب بعمر الورد خرج ليصد الجيش وعربدة المستوطنين وإرهابهم٬ وفي كل مرة تعيد فيها تسليم مستوطن لجيش الاحتلال دخل “بالخطأ” إلى القرى والبلدات الفلسطينية بعد التأكد من سلامته وتقديم “الواجب” معه.
وفي ظل هذا كله٬ ينظم المستوطنون المسلحون دوريات على الطرق الخارجية بتنسيق من الجيش٬ ويتسلحون بمئات آلاف الرشاشات الأوتوماتيكية بأوامر من ابن غفير وسموترتش الذي يعد الضفة بـ”الخراب مثل غزة”٬ كأنهم يستعدون لحرب تطهير عرقي٬ في مشهد مشابه لما كان قبيل النكبة عام 1948 حيث كانت تستعد العصابات الصهيونية للحرب وسلب كل شيء٬ وكان البعض والجيوش العربية حينها يفضلون الانتظار والتعامل بمبدأ رد الفعل لا المبادرة٬ حتى ضاع كل شيء.
“ع شو بتتفرجوا”٬ هي صرخة حقيقية ونداء للاستفاقة للأهل بالضفة وكل من يملك سكيناً أو حجراً أو رصاصة٬ فأكثر من 700 ألف مستوطن معظمهم مسلحون رجالاً وحتى نساء٬ يسعون اليوم لإقامة دولتهم على أنقاض منازلكم قولاً وفعلاً٬ والسلطة لم تدافع عنكم بالأمس ولن تدافع عنكم اليوم، بل هي شريك حقيقي لعدوكم يلاحق ويقتل خيرة شبابنا في نابلس وطولكرم وطوباس وجنين وغيرها٬ وأمام هذا البلاء المركّب لا خيار إلا التكاتف والمواجهة وليس انتظار وقوع المعجزات٬ فالمستوطنون لا شيء يردعهم عن سرقة المنازل وتهجير أهلها منها ولف سجائرهم وارتشاف قهوتهم على أرائكهم٬ إلا القوة.