“لن يدخلوا معسكرنا”.. عن “صخرة جباليا” العنيدة وفدائييها
بعد 7 أشهر من الإبادة الجماعية وعشرات آلاف الغارات المدمرة للبشر والشجر والحجر، وحروب التجويع والتركيع لقهر الإنسان الغزي والفتك بإرادته، لا تزال المقاومة الفلسطينية تنهض من تحت الرماد كطائر الفنيق، متحدية كل التوقعات، ولا يزال شبانها يقاتلون ببسالة وضراوة في حاراتهم وأمام منازلهم ومساجدهم المدمرة، كأنهم في الأيام الأولى للمعركة، يضربون جيش الاحتلال في مقتل بما فتح الله عليهم، ويذيبون فولاذ الميركافا بقاذف الياسين وعبوات الشواظ، فيما لا تزال الأنفاق تحمل الكثير من المفاجآت لجنود الاحتلال الغارقين في رمال غزة.
وفي هذه المعركة الاستثنائية التي تتجسد بها الإرادة الصلبة والتصميم العميق على القتال والانتصار، يبرز مجدداً “معسكر جباليا” – كما يحب أهله أن يسموه في شمال غرة لتاريخه الطويل في العسكرة والمقاومة ضد الاحتلال – كصخرة عنيدة تتكسر عليها أوهام الجيش الإسرائيلي وقادته الذين لا يتعلمون الدروس والعبر من أفعال جباليا طوال العقود الماضية.
فمنذ كمائن وعمليات “مسافة الصفر” التي هندسها ابن جباليا الشهيد عماد عقل في مطلع التسعينيات، إلى معركة أيام الغضب (عام 2004) التي أذاقت فيها كتيبة الشهيد “سهيل زيادة” (شرق معسكر جباليا) جنود “النخبة” الموت الزؤام، ومنعت أقدامهم من أن تطأ المعسكر، عرف الاحتلال جبروت جباليا وبأسها الشديدين.
وفي معركة الفرقان (2008-2009) ظن الاحتلال واهماً أنه سينجح في كسر شوكة جباليا بعدما قصفها بأطنان المتفجرات، وحاول الهجوم عليها برياً عليها من محاور عدة. لكن حينها خرج شيخ المعسكر نزار ريان رحمه الله مرتدياً زيه العسكري ويلتف حوله شباب جباليا الكرام في مشهد لا ينسى، وقال كلمته الشهيرة: “لن يدخلوا معسكرنا، يعني لن يدخلوا معسكرنا”. رحل الشيخ شهيداً مع 15 من أفراد أسرته صامداً في معسكره بتلك المعركة، لكن الجنود لم يدخلوا المخيم وكان عصياً عليهم مجدداً – كما في كل الحروب التالية الطاحنة – وكأن روح الشيخ ظلت تحرس المخيم أو أن بركته حلّت عليه ولم تفارقه.
اليوم يعود الاحتلال، عبثاً ودون جدوى، لمعسكر جباليا الصغير الذي لا تزيد مساحته على كيلو متر مربع ونصف، وعدد سكانه لا يزيدون عن 180 ألف نسمة، في محاولة لتحقيق حلم دخوله القديم، بعدما فشلت كتائب الاحتلال وألويته المختلفة في هجومها البري الأول عليه في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023 رغم أنها شنت آلاف الغارات وفتحت أبواب جحيم “النيران التمهيدية” على المعسكر العنيد، الذي أبى معظم أهله مغادرته، كالعادة، متحدين قوانين العقل والمنطق، كأنهم جيش من الفدائيين الذين وهبوا حياتهم بأكملها في سبيل منع سقوط المخيم أو كسر صخرته.
شن الاحتلال هجوماً عنيفاً على معسكر جباليا في 12 مايو/أيار 2024 من عدة محاور، وأرسل ثلاث كتائب مدرعة لتنفيذ المهمة التي لطالما فشل فيها، ظاناً أنه بعد كل هذه الأشهر من السحق والتجويع سيركع المعسكر وسيرفع الراية البيضاء، لكن ما حصل هو أن جباليا العنيدة أثبتت مجدداً أنها الجبهة الأكثر قوة وصموداً في هذه المعركة، حتى أن أسراب طائرات الهيلوكوبتر التي أتت لإخلاء الجنود القتلى والجرحى لم تفارق سماء المعسكر طول تلك الأيام.
فمن صيد الدبابات وتقسيم حصص ضربها كما قال ذلك المجاهد لصاحبه: “أنت على الدبابة اللي ورا وأنا اللي في النص يلا بسرعة دارت علينا”، إلى تفجير فتحات أنفاق والمنازل المفخخة، إلى الكمائن المركبة وعمليات قنص الضباط، أذهلت جبالياً القريب والبعيد بقتالها الشرس، وكأنها في يومها الأول من الطوفان، الذي كان فيه لكتائب جباليا نصيب الأسد من الهجوم على معبر إيرز وقاعدة زكيم وسيدروت في السابع من أكتوبر.
أحيت جباليا ذكرى النكبة الـ76 على طريقتها الخاصة هذا العام، وكانت لمعارك أيار الأسطورية طعمها المميز، وكأنها تبشر بفتح ونصر قريبين رغم أن المعركة طال أمدها وزادت شدتها وظن الاحتلال أنه قادر عليها، لترفع الهمم وتزيل كلف التذمم والإشفاق وتحيل ما تبقى من عمر الاحتلال إلى أيام وشهور عجاف.
وشكّل الصمود الأسطوري للحاضنة الجماهيرية الذي قلّ نظيره، والمرونة التكتيكية التي تبديها المقاومة في المعركة، ملحمة عظيمة ستحفر تفاصيلها ومشاهدها في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني والعالم، كمثال حي على الشجاعة والتحدي والعناد، لتظل جباليا الصخرة، ملهمة للأجيال القادمة، ولتكون دماء شهدائها السبّاقين الكرام من حاتم أبو سيسي الشهيد الأول في انتفاضة الحجارة٬ وعماد عقل وسهيل زيادة وفوزي أبو القرع -الذين تحمل كتائب المخيم اليوم أسماءهم- إلى قادة هذه المعركة التاريخية وشهدائها العظام كأحمد الغندور ورأفت سلمان وعصام أبو ركبة وغيرهم، مشعلاً ونوراً يهتدي به أبناء هذه الأرض حتى التحرير الكامل ودحر الاحتلال عن آخر شبر منها.