من الرأي إلى التحريض.. اختبار وعي السوريين
من الرأي إلى التحريض.. اختبار وعي السوريين
مع انفتاح السوريين على بعضهم بعد سنوات طويلة من العزلة والانقسام وعودة مختلف فئات المجتمع للمشاركة في الحياة العامة ووسائل التواصل الاجتماعي، برزت ظاهرةُ الخطاب التحريضي وخطاب الكراهية بشكلٍ لافت، فبينما يفترض أن تكون حرية الرأي مساحة للتعبير والتقارب، تحوّلت إلى ساحة لتبادل الاتهامات وإحياء الاصطفافات القديمة. في هذا التقرير، نحاول في سطور سوريا التوقّف عند هذه الظاهرة عبر مناقشة آثارها النفسية والاجتماعية مع أخصائية نفسية وباحث اجتماعي، للبحث في أسباب تفشي الخطاب التحريضي، وكيف يسهم في تعميق الانقسام بدل رأب الصدع إضافة إلى سبل الحدّ منه، ومسؤولية الأفراد والمنصّات في خلق بيئة حوارية آمنة تحترم الاختلاف ولا تُحوّله إلى كراهية. غضب وتضامن
عاد الجدل مؤخراً إلى الواجهة بعد منشور كتبته لبانة قنطار على حسابها في “فيسبوك”، قالت فيه إنّ “الخيم ليست للدروز، بل لبني أُمية الذين تركوا نساءهم في الشوارع منذ 14 عاماً”، في تعبير حمل طابعاً تحريضياً وتمييزياً وفق خبراء ما أثار ردود فعل واسعة بين السوريين على مواقع التواصل.هذا المثال وغيره من الحوادث المشابهة يسلّط الضوء على مدى هشاشة الخطاب العام في فضاء عام مفتوح لم يتعود بعد على إدارة الخلاف باحترام متبادل، وهو ما يدفعنا لطرح تساؤلاتٍ حول جذور هذا الخطاب وتأثيره على التعايش المجتمعي في سوريا بعد الحرب.
يعكس هذا الجدل جانباً آخر من الواقع السوري بعد الثورة السورية، إذ شهدت مواقع التواصل موجة تضامن واسعة مع سكان الخيام، معتبرين أن الكرامة لا ترتبط بشكل السكن بل بقدرة الناس على الصمود في وجه التهجير والفقر.
وشدد كثير من السوريين على أن الاستهزاء بأهل الخيام ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج خطاب طبقي وإقصائي يتنافى مع قيم التعاضد التي وُلدت من قلب المعاناة.وبحسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) نشر في تشرين الأول، ما يزال نحو 7 ملايين شخص نازحين داخلياً في سوريا، بينهم 1.3 مليون يعيشون في مخيمات أو مواقع مماثلة، ما يجعل الدفاع عنهم في الفضاء العام ليس فقط موقفاً عاطفياً، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية تعكس إدراك السوريين لثمن التشريد وكرامة من دفعوه.وترى الأخصائية النفسية آلاء الدالي أن الدافع الأعمق وراء هذه السلوكيات هو تفريغ لمشاعر الكبت والغضب عبر تصغير الآخر وإهانته، نتيجة جهل ونظرة دونية متوارثة تجاه فئات معينة كـ”المرأة أو الفقير أو ابن الريف”، وهي مظاهر تعكس التكوين النفسي الجمعيّ لمجتمع تربى على قمع الاختلاف لعقود طويلة.وقالت الدالي لموقع سطور: إن أيّ شخص معروف أو يعمل في الشأن العام يكون عرضة للانتقادات والآراء المختلفة، لكن النساء خصوصاً يواجهن شكلاً مضاعفاً من هذا الهجوم في مجتمع ما زال يستخدم الإهانة والشتائم المرتبطة بالشرف والأنوثة كوسيلة للنيل منهن عند أي خلاف أو اختلاف في الرأي. الإهانة وسيلة للدفاع
رغم اختلاف أشكالِ هذا الخطاب وأهدافه، يبقى تأثيره في الأفراد ملموساً وقاسياً، وخصوصاً على النساء اللواتي يجدن أنفسهن في واجهة الاستهداف المباشر، فخطاب الكراهية لا يكتفي بإحداث شرخ اجتماعي، بل يترك جروحاً نفسية عميقة تطال ثقة الفرد بمجتمعه، ما يجعل فهم انعكاساته على الصحة النفسية خطوة ضرورية قبل الحديث عن معالجته.وتوضح الدالي أن هذا النوع من العنف اللفظي يترك آثاراً نفسيةً سلبية على المرأة، منها الإحباط والحزن والتردد في المشاركة، وأحياناً الانسحاب من الفضاء العام، فيما قد يتحول لدى أخريات إلى دافع إضافي للاستمرار وإثبات الذات.وتشير إلى أنّ بعض الأشخاص الذين يقضون ساعات طويلة على وسائل التواصل دون انخراط فعلي في الحياة العملية أو الاجتماعية، يعانون غالباً من اختلال نفسي وتوازن عاطفي هش، فيعبرون عن إحباطهم وغضبهم بإسقاط هذه المشاعر على الآخرين.ويعتبر الباحث الاجتماعي أحمد الرمح في تصريح لموقع “سطور”، أن لجوء بعض الأفراد إلى مصطلحات تمس الشرف والكرامة يعد دليلاً على هشاشة المجتمع و”تفاهة” من يستخدم هذه المفردات، مؤكداً أن الهجوم على المرأة بتعبيرات مهينة يظهر جهلاً في كيفية مخاطبة المجتمع السوري، وقد يسهم في تفاقم حالات الثأر والانفعال والعنف الاجتماعي.ورغم أن هذه التأثيرات تختلف بين شخص وآخر، إلا أن القاسم المشترك بينها هو خلق بيئة تحريضية، ما يعني أن التعامل مع الخطاب التحريضي ليس مسألة أخلاقية فحسب، بل ضرورة لحماية التوازن النفسي والمجتمعي معاً. خطاب ثأر يذكر بالانقسام المجتمعي
الخطاب التحريضي لا ينشأ فقط من دوافع فردية أو اضطرابات نفسية بل يتغذى أيضاً من عوامل اجتماعية وسياسية أعمق قد تكون متراكمة عبر السنوات، فغياب الأطر الجامعة واستمرار رواسب الانقسام التاريخي أسهما في خلق بيئة خصبة لخطاب الإقصاء والثأر.ويرى أحمد الرمح، أن المجتمع السوري لم يُبنَ على قيم ثقافية وإنسانية راسخة قادرة على حمايته بعد خروجه من حرب طويلة، مشيراً إلى وجود عوامل متعددة تسهم في تصاعد الخطاب التحريضي والطائفي. وأضاف الرمح أن من أبرز العوامل التي تغذي هذا الخطاب في الوقت الراهن، إحياء ثقافة الثأر والانتقام المتبادل بين مكونات المجتمع إلى جانب غياب ثقافة المواطنة والتربية الإنسانية، مما يؤدي إلى اتساع هوة الانقسام الاجتماعي.ويشير الباحث إلى أن غياب خطاب إعلامي وطني جامع لكل المكونات السورية والذي يعتبر من مسؤولية السلطة، ما فرض خطاباً بديلاً قائماً على ردود فعل انفعالية وتصفية حسابات عاطفية بما يعزز مشاعر الكراهية والرغبة في الانتقام.
في النهاية، يبدو أن طريق السوريين نحو خطاب صحي قائم على الاحترام وقبول الاختلاف ما يزال طويلاً لكنه ليس مستحيلاً، فمواجهة خطاب الكراهية تبدأ من الاعتراف بوجوده وتستمر عبر بناء ثقافة مواطنة تشجع على الحوار بدل الإقصاء، وتمنح الجميع منصة آمنة للتعبير من دون خوف أو تخوين.
وبين دور المؤسسات والأفراد والمنصات الرقمية، يبقى الرهان الحقيقي على وعي المجتمع وقدرته على تحويل المساحات المفتوحة إلى جسور تواصل لا ساحات صراع، فالتعافي الاجتماعي لا يتحقق بالمواجهة اللفظية والتخوين بل عبر وعي ومصارحة شجاعة وإرادة صادقة لرأب ما تصدع.