مجتمع
تعيش الدولة السورية اليوم أحد أبرز الامتحانات الأمنية والاجتماعية على مستويات عدّة، عقب استهداف تنظيم داعش وفق ما صرّحت به الحكومة المكون المسيحي في سوريا، وذلك بعد أشهر من تشديد الحكومة قبضتها لحماية السوريين بمن فيهم المسيحيون من أي هجمات للتنظيم. فهي كانت على دراية بمخططات التنظيم لاستهداف المكونات الدينية غير السنية بغية تعزيز حالة الخوف بين السوريين وزعزعة ثقتهم بكل جهودها لبناء الثقة بينها وبين السوريين من جهة، وبين السوريين أنفسهم من جهة أخرى.
يوم الأحد الماضي، وقت الصلاة، ووسط تجمع العشرات من السوريين في كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة بدمشق، دخل شخص الكنيسة -وفي روية غير حكومية نفذ الهجوم شخصان- وبدأ بإطلاق نار عشوائي على المُصلين في الكنيسة، ليفجر بعدها نفسه. الهجوم أودى بحياة 25 شخصاً إضافة إلى سقوط عدد من الجرحى بإصابات متفاوتة، بعضها خطر وأخرى ليست شديدة الخطورة.
تحرّك الحكومة بعد الهجوم الإرهابي كان معقولاً، والاستجابة الإعلامية له كانت سريعة، فعقد المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، مؤتمراً صحفياً بعد الحادثة ووجه أصابع الاتهام للتنظيم، موضحاً أن الحكومة تمكنت من إحباط هجومين في وقت سابق أحدهما على كنيسة في معلولا بريف دمشق، والآخر كان سيستهدف مقام السيدة زينب في العاصمة السورية. وكان وزير الداخلية السوري، أنس خطاب قد ذكر في مقابلة له على تلفزيون الإخبارية السورية مطلع الشهر الجاري أن تنظيم داعش ما زال يشكل تهديداً كبيراً على السوريين، وأن الداخلية أحبطت محاولات التنظيم لاستهداف المسيحيين والشيعة.
تمكّن تنظيم داعش من تحقيق هدفه في استهداف المكون المسيحي في العاصمة دمشق، رغم أن علم الحكومة بمخطط التنظيم هو تحوّل يدق ناقوس الخطر بين صفوف الحكومة التي تعاني نقصاً في كوادرها أصلاً، ويُخبر القائمين على الدراسة الأمنية فيها، والعاملين في التخطيط لمتابعة وتتبع خلايا داعش في سوريا أنهم أمام امتحان كبير، هذا الامتحان يتمثل بمواجهة تحديات عديدة، أبرزها مخططات إضعاف صورة الحكومة وقدرتها على ضبط الواقع الأمني، إضافة إلى تحدٍّ لضبط تأمين السلاح الخارج عن سيطرة الدولة، وتعميق الثقة بين الدولة والسوريين.
مما لاشك فيه أن الهجوم على كنيسة مار إلياس لا يهدف إلى ضرب المسيحيين لأنهم مسيحيون، بل هو محاولة لإضعاف وتشويه الصورة التي تحاول الحكومة السورية تصديرها إلى السوريين بمختلف مكوناتهم، وإلى العالم بشكل عام، بأنها قادرة على حمايتهم، والدفاع عنهم في وجه التهديدات التي تُحدق بهم وتستهدف أمنهم.
إضعاف هذه الصورة مدخله زعزعة الشعور بالأمن بين السوريين، ونشر الخوف بين مكوناتهم، لأن الخوف قادر على أن يُفقد الإنسان القدرة على التركيز وتدوير الزوايا في الرؤية. فكلّما زاد الخوف بين السوريين، كلّما فقدت الدولة السورية شعبيتها والثقة بقدرتها على حماية السوريين، وكلما خفّ التدقيق بين السوريين على الجهود التي تبذلها الحكومة لحمايتهم.
الأحداث التي حصلت في الساحل السوري مطلع شهر آذار/ مارس الماضي هدَفت إلى خلق حالة من الاقتتال الطائفي بين السوريين، ونشر الخوف في قلوب المكونات السورية بأنها مستهدفة من قبل الحكومة، ومن قبل الفوضى أيضاً.
الحكومة السورية حينها احتوت الموقف وقاومته بإجراءات تدفع نحو السلم الأهلي ومحاسبة كل من تورط بارتكاب جرائم بحق السوريين في الساحل السوري، إلا أن تداعياته بقيت إلى حين بين السوريين، وسط حملات إعلامية تضليلية تستهدف كل محاولات الحكومة لتعزيز الشعور بالأمن بين مكونات الشعب السوري. الهجوم الذي استهدف كنيسة مار إلياس لا يخرج عن السياق نفسه، وهو زعزعة الشعور بالأمن، بُغية إضعاف الدولة السورية على المستوى المحلي، وعلى المستوى السياسي الخارجي.
من غير المستبعد أن تعقب هذا الهجوم محاولات أخرى لاستهداف السوريين بمختلف مكوناتهم، سواء من قبل تنظيم داعش أو من قبل قوى أخرى تشارك التنظيم في الرؤية، وهي نشر الخوف وعدم الشعور بالأمان، لذلك تقف الحكومة السورية اليوم أمام هذا الواقع مُمْتَحنة بقدرتها على ضبط الأمن، وحماية السوريين بمختلف مكوناتهم، وهذا الامتحان يتطلب أعلى مستوى من الاستنفار الأمني والتخطيط لاحتواء الواقع المتأرجح أمنياً أصلاً، خصوصاً في ظل عدم قدرة الحكومة السورية على بسط سيطرتها على كافة الأراضي نتيجة تعقيد في ديناميكيات توحيد الأرض السورية بين الدولة ومكونات أخرى كقوات سوريا الديمقراطية وبعض القوى العسكرية الموجودة في السويداء، إضافة إلى التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية.
وبحسب معلومات سطور، فإن الدولة السورية شددت الرقابة خلال الفترة الماضية على كل المناطق الحدودية، ونفذّت أكثر من مداهمة في المناطق الحدودية وريف دمشق، مستهدفة “قوى خارجة عن القانون” سواء كانت تلك القوى تنتمي إلى داعش أو فلول النظام أو ما زالت على صلة بالمليشيات الإيرانية. كما أرسلت الداخلية السورية تعزيزات أمنية إلى المناطق ذات الغالبية المسيحية في دمشق وريفها، وفي محافظات سورية أخرى لمنع تكرار ما حصل.
تبقى قدرة الحكومة السورية على ضبط الأمن مسألة حرجة، في ظلّ نقص الكوادر لديها، وضعف معلوماتها الاستخباراتية حول توزع الخلايا وقدراتها العسكرية بمختلف مكوناتها، إضافة إلى انتشار ملايين من قطع السلاح بين السوريين، وهو ما يجعل عملية ضبط استخدامه مسألة صعبة جداً.
خلال السنوات السابقة، ومع بدء المعارك بين نظام الأسد والمعارضة السورية، بدأت قطع السلاح بالانتشار بين السوريين، وباتت الأرض السورية سوقاً لبيع الأسلحة، ومع دخول تنظيم داعش إلى سوريا ازداد الطلب على السلاح بكل أنواعه الثقيل والخفيف. كما أن تفتُّت الدولة السورية زمن الأسد، وتحول الجيش إلى مجموعات، ووجود قوى عسكرية تتبع أجندات النظام ولا تقف تحت مظلّة مؤسسته العسكرية، كلها عوامل ساعدت على انتشار فوضى السلاح.
النسبة الأكبر من هذا السلاح الموجود على الأرض السورية، بما فيه الموجود في ثكنات نظام الأسد والمجموعات المسلحة المحلية التابعة للمليشيات الإيرانية اختفىِ مع سقوط النظام، حيث سرق السلاح من الثكنات والمواقع العسكرية، وبات يُباع بين السوريين بمبالغ ليست باهظة، حتى أن خلايا داعش عملت خلال الأشهر الماضية على إعادة تسليح نفسها عبر شراء السلاح المسروق من الثكنات والقطع العسكرية.
جهود الحكومة السورية لضبط السلاح كبيرة إلا أن إمكانياتها لا تكفي لتحقيق هذا الهدف بوقت قياسي، ما يعني أن التهديد الأمني الذي يُشكله السلاح الخارج عن سيطرة الدولة هو تهديد حقيقي، لأن استخدامه ممكن، وتداعيات هذا الاستخدام ستكون كارثية إذا ما تم استهداف الوحدة السورية من خلاله، أو محاولات الدولة لتوحيد الانتماء السوري ونبذ الفرقة الطائفية والعرقية والقومية.
تكرار سيناريو كنيسة مار إلياس سيُعزز الخوف بين السوريين، وسيدفع الكثير منهم إلى محاولة شراء وتأمين قطع السلاح بهدف “حماية النفس”، أو الدفاع عن الحي، الشارع، والمدينة.
تنظيم داعش، وقوى أخرى محلية وأجندات خارجية، كلها تهدف إلى دفع السوري إلى قوقعة الخوف، وعدم الثقة بالدولة وقدراتها، ثم البحث عن سبل لحماية نفسه خارج صندوق الدولة، هذه السبل قد تكون عبر التسلح الذاتي، أو عبر طلب الحماية من أطراف أخرى، أو التعاون مع قوى خارج الحدود، وكل ذلك يخلق واقعاً أمنياً هشّاً يُثقل الجهود السورية والدعم الدولي لترسيخ الاستقرار في سوريا، ذلك أن الاستقرار في سوريا أحد أهم العوامل الجيوسياسية التي تؤسس لتهدئة نار الشرق الأوسط المشتعل.
مرّة أخرى تقف الحكومة السورية أمام امتحان في هذا السياق، خصوصاً أن تأمين السلاح المنفلت ليس عملية عسكرية أو ملاحقة أمنية فحسب، بل هو طريق يُسلك بخطوات كثيرة، تبدأ بالعمليات الأمنية، وتمرّ بضمان أمان المدنيين، وتجسرها الثقة بين الحكومة والمواطن، فالأخير لن يبادر بتسليم السلاح أو المساعدة في ضبطه، طالما أنه لا يشعر بأمان. دعم السوريين ضروري لتمكين الدولة من ضبط السلاح المنفلت، ودونه ستبقى كل مقدرات الدولة تدور في فلك واسع جداً وتستهلك مقوماته في سبيل تحقيق هدف أشبه بمستحيل المنال.