– رغد مشوّح
أذكر يوم الرحيل جيداً، كأنّه أمس..
كنت واقفة على درج منزلنا، عيني معلّقة بذلك الباب الخشبي الذي عبرته آلاف المرات، لكن هذه المرة كانت مختلفة، كنت أريد أن أغلقه بنفسي، أن أسمعه يُغلق كعلامة نهاية فصل من حياتي، لكن أمي التفتت إلي وقالت بهدوءٍ محاولة تغليفه بالطمأنينة: “ما في داعي نقفل الباب أو ناخذ غراض كثير.. راح نرجع”.
صدّقتها، أو على الأقل أردت أن أصدّق. تذكّرت وأنا أغادر أشياء بسيطة كنت أريد أن آخذها معي كدفتر كنت أحتفظ فيه بذكرياتي مع أصدقائي في المدرسة، ألعابي، ذلك الكوب الزجاجي الذي كنت لأجله أشرب الحليب فقط لأنه يحمل صورة شخصية الكرتون المفضل لدي.
لم آخذ شيئاً، قلت لنفسي: “كل شيء سيكون بانتظاري حين أعود.. لكنني لم أعد، تلك الأشياء لم تبقَ”. يد الغدر سبقتني، أحرقت ما لم يأخذه النهب، وتركت البيت خاوياً إلا من ذكراه.
طوال طفولتي كنت أسمع عن دمشق لكنني لم أزرها قط. كنا نراها من خلال الشاشة، من خلال المسلسلات التي ملأت البيوت دفئاً، ومن لهجات أبطالها الرجال الأبضايات، البساتين والخيول. دخلتها بعد التحرير من أحد أبوابها السبعة، باب شرقي، وكانت لحظة لا تُشبه سواها، ارتسم أمامي مشهد يشبه الحلم، خيول في البساتين، وفوقها شبابٌ شآميون بملامح من دراما الثمانينيات، رجال بدوا كأنهم خرجوا للتو من مسلسل قديم كنت أتابعه في بيتنا.
لكن الواقع كان له وجه آخر، فملامح المدينة بدت لي متعبة، منهكة ومائلة إلى الرماد، رأيتها من وراء نافذة سيارة الأجرة، وكأنها تنظر إليّ أيضاً، تتفقدني، تتساءل إن كنت أنا التي انتظرتها. حتى سائق السيارة، بوجهه الأسمر المُتعب، بدأ يتحدث عن الكهرباء، والغاز، وارتفاع الأسعار، وكأنه فعل ذلك مئة مرة من قبل، وكأنه يهيّئني، كما يهيّئ كل من ينقلهم من المطار، لما ينتظرهم في هذه المدينة القديمة التي لا تموت، بل تُجيد التعب.
لكن دمشق، رغم كل شيء، كانت بديعة في تعبها دهشة، وفي صوتها شجنٌ يشبه صوت الجدّات، وفي شوارعها نافذة إلى حنينٍ يشبهني. دخلت الشام بخوفٍ داخلي، لكنها احتضنتني، رأيت فيها أناساً يعودون إلى بيوتهم، يفتحون خزائنهم، يجدون كتبهم، صورهم، ألعابهم، دفاترهم، ذكرياتهم… كانوا سعداء، يبتسمون في وجوه بعضهم، يقصّون حكايات الأغراض التي صمدت، كأنها كنوز.
أما أنا، فشعرت بغصّة، لم يكن لديّ شيء أعود إليه لا باب أفتحه، لا غرفة أتفقدها، لا لعبة لي، ولا كوب الحليب.، كنت هناك جسداً فقط، أما روحي، فكانت على الدرج، حيث وقفت آخر مرة في بيتٍ أصبح رماداً.
رغم مرور السنوات، ورغم أن رائحة الرماد ما تزال عالقة في الزوايا، ومخلّفات النظام ما زالت شاخصةً في العيون، إلا أنها فقدت هيبتها القديمة. باتت في نظرنا، مادة للسخرية، هكذا بعد كل هذه السنين وما بذله السوريين من دماء وتضحيات، لم يعد أحد يهاب الخوف الذي كان يزرع في البيوت قبل الشوارع، أصررنا على الكرامة وحصلنا عليها.
في أول موقفٍ لي في الشام بعد طول غياب عن سوريا، وقعت الحكاية التي أعادت إليّ يقيني بأننا نحن السوريون، أبناء اللقمة الحلال. حين أنزلنا حقائبنا في مدخل المنزل، عاد سائق التاكسي بعد دقائق قليلة، وقال بصوت خجول: “في زيادة بالمصاري”. ابتسم زوجي، وأجابه: “مسامحين”. لكن السائق ألحّ، كرر السؤال، وهل يشكّ أحد في إصراره على السؤال بأن هذا الرجل، الذي أنهكته الطرقات، سيشتري بقيمتها خبزاً لأولاده؟ من عرق جبينه بالتأكيد.
وفي أول ليلة لنا في دمشق، على الرغم من الوليمة العامرة التي أعدّتها العمة إيمان بيديها المتعبتين، لم نستطع مقاومة سيخ الشاورما في حي الصالحية. كأن شيئاً فينا كان يحنّ إلى تلك السندويشة المدهونة بالدسم والمصنوعة بحب. لم نحتاج أن نشرح لمعلّم السيخ ما نريد. كان يتفنن بوضع قطع الدجاج على السندويش ويمرر لك بعضها من السيخ ليطعمك بيده. إنه السوري؛ بائعٌ وشاعر ومضيفٌ في الوقت ذاته، يعرف كيف يربح قلبك قبل أن يربح جيبك ويتفنّن في كسب الزبائن كما يتفنن في لفّ السندويش.
الشام مدينة تصرف فيها أضعاف ما تنوي، لا لأنك تجهل الأسواق، بل لأن لسان البائع المعسول يأسر قلبك، يبتسم بثقة ويقول لك: “لف السوق وارجع لي يا غالي”.
وهنا، في هذا الشارع أو ذاك، تشعر أن المدينة كلها تشبه بعضها، كل العيون نظرت إليك بذات الطريقة، نظرة من يعرف أنك مررت بذات الأسى، أنك متعب، وتبحث فقط عمّا يساعدك لإكمال يومك. ولهذا، يسند بعضنا بعضاً بالكلمة الطيبة والضحكة ونظرة دافئة لا تطلب مقابلاً.
في شوارع الشام التي لم تُنرها الكهرباء بعد، يسطع ضوء القمر ويضيء معها نور قلوب أهلها. يخبرك أحدهم: “دير بالك ع حالك، لا تمشي لحالك، تعا امشي جنبي بنتونس ببعض” وكأنهم يدفئونك بكلماتهم العذبة. كل هذا الحب تسمعه في جملة بسيطة تُقال لك في السوق: على حب النبي، وتؤبرني، والمحل محلك، قرب وجرب ما راح تندم، يرضى عليك، والله يكرمك، كسبنا شوفتكن، ويسلّمهن يا غالي…
كل هذا دفء، كل هذا انتماء، كل هذا وطن، لم نعشه خلال 14 عاماً الماضية. لكن اليوم ها نحن نعود، للوطن، لحضن الأحباب ودفئ الطرقات.