أسد السياسة الصامتة: الجنرال الذي حرّر مصر ولم يسعَ لحكمها
في صفحات التاريخ الإسلامي، قلّما نجد شخصية لعبت دورًا مفصليًا في تغيير مسار الأمة، ثم انسحبت بهدوء من المشهد دون أن تطالب بمجد شخصي، و كان فعلاَ رجل مرحلته ومهندس زمانه، أعني به أسد الدين شيركوه الكردي.
فقد فهم شيركوه مبكرًا أن المعركة الحقيقية ضد الصليبيين المحتلين للساحل الشامي و مدينة القدس لا تبدأ من ميدان القتال والمعارك الحربية، إنما من باب السياسة، و ليس في بلاد الشام إنما في مصر، فبين عامي 1163 و1169م، قاد ثلاث حملات متتالية إليها، لم يكن هدفها التوسع، بل تفكيك التحالف بين الصليبيين ونفوذ الوزير الفاطمي شاور في الحكومة المصرية، فأدرك أن بقاء مصر تحت سلطة ضعيفة أو متحالفة مع الأعداء يعني تهديدًا دائمًا للشام والقدس، فكانت فلسفته السياسية تقوم على تحرير المركز الجغرافي الأهم في العالم الإسلامي وهي مصر، لا السيطرة عليها.
فلم يكن أسلوبه قائمًا على البطش أو الإخضاع، بل على ما يسمى بهندسة التحول السياسي من الداخل ، ففي الحملة الثانية، لم يُسارع إلى إقصاء شاور مباشرة من الجهاز الحكومي المصري ، بل قام بمفاوضته، واستخدمه كأداة سياسية مرحلية، رغم علمه بمراوغاته وتحالفاته السابقة واللاحقة مع الصليبيين ـ فهذا السلوك يكشف بُعدًا واقعيًا في سياسة شيركوه، فلم يكن يطمح إلى الانتصار بأي ثمن، بل إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي المصري دون تدمير كامل للبنية القائمة.
ولعل أقوى مؤشر على عمق رؤيته السياسية والتي تظهر في تصرفاته بعد دخوله للقاهرة، أنه لم يُعلِن نفسه واليًا أو سلطانًا أو رئيساً للوزراء في مصر ، بل حافظ على رمزيته كقائد عسكري تابع لحكومة نور الدين زنكي في دمشق، بل أكثر من ذلك، فعندما تم تعيينه رئيسا للحكومة المصرية تحت ظل الخلافة الفاطمية كان حريصاَ على أن تتم تغيير الوجهة المصرية من الفاطميين الى الزنكيين سياسيًا دون إثارة اضطرابات شعبية فورية.
وعند وفاته في 1169م، لم يوصِ بالحكم لوريث من ذريته، بل مهّد الطريق لابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، في قرار لم يكن عاطفيًا بقدر ما كان إستراتيجيًا سياسياً حكيماً ، فلقد رأى في صلاح الدين الشخص القادر على استكمال مشروعه في الديار المصرية ، ليس فقط عسكريًا، بل إداريًا وأخلاقيًا ، وهكذا، كانت نهاية شيركوه تتويجًا لفلسفة القيادة التي تقوم على صناعة التحول السياسي لا اعتلائه.
وما نستخلصه من هذه التجربة أن شيركوه لم يكن مجرد قائد حمل السلاح في الميادين العسكرية، بل مهندسًا لتوازن القوى السياسية، وبانيًا لمرحلة انتقالية شديدة الحساسية في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد كان يدرك أن الفتح الحقيقي لا يكمن في رفع الرايات بالقهر والإجبار، بل في تأسيس نموذج حكم عادل ومستقر، فهل يمكن استعادة نموذج أسد الدين شيركوه اليوم؟ ربما نعم، بشرط أن نعيد تعريف القيادة باعتبارها مسؤولية أخلاقية أمام الشعوب والتاريخ والضمير الحي، وأن نرى السياسة كما رآها شيركوه، أداة لتحرير الأمة من الضعف والانقسام، لا طريقًا للمكاسب الفردية.