سياسة
في خضم التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا بعد أربعة عشر عامًا من الصراع، يُعيد هذا النص طرح تساؤلات حول الإرث القومي العربي، وانعكاساته على الواقع الجديد، ويفتح نقاشًا عن التداخل بين الفكر القومي والإسلامي في المرحلة الراهنة.
يتناول الكاتب والصحفي اللبناني المعروف حازم صاغية في كتابه (قوميو المشرق العربي، من درايفوس إلى جارودي)، ذلك الاستنساخ التراكمي والتدريجي الذي قامت به حركات القومية العربية لأفكار نظيراتها القومية الأوروبية، والتي أفضت إلى تبني التجربة القومية الأوروبية ومفرداتها الشمولية والإقصائية الأكثر سوءًا وتدميرًا، ومنحها بعدًا تاريخيًا وغطاءً ثقافيًا غير موجودَين في سياق التاريخ وواقع المجتمعات العربية في بدايات القرن العشرين.
فبعد بروز علامات الضعف على السلطنة العثمانية، والذي بدا واضحًا مع تبنيها جملة إصلاحات تبعد عنها شبح الانهيار، ومع تخلف واضح داخليًا وضعف أمام دول شرسة عسكريًا كروسيا القيصرية، بدا الغرب ممثلًا بفرنسا وبريطانيا حاميًا لهذه السلطنة في ساحات معارك البلقان، ومانعًا لتقسيمها. فتحولت السلطنة إلى الانفتاح الثقافي على الغرب، أملًا في انتشالها من أوضاعها السياسية والاقتصادية المتردية.
وكان في مقدمة من تبنوا أفكار التجربة القومية الأوروبية المتعلمون في المدارس الحديثة، من باب تقليد وتمثيل النموذج الناجح. ومما يُذكر هنا أن الأتراك أنفسهم سارعوا إلى تبني الأفكار القومية قبل العرب، إذ كانت بنظرهم سبيلًا لتجديد شباب السلطنة عبر شدّ عصبها القومي، وتبني تجربة الغير ومحاولة تعميمها وإنجاحها بالفرض والقوة، وتصوّر تحول جذري في واقع الإمبراطورية جراء فرض هذه الأفكار من أعلى. والحقيقة أن هذه الأفكار جلبت نتائج مختلفة عمّا كان يتصوره الطورانيون الأتراك، فقد جُزئت السلطنة إلى أجزاء على أساس قومي، في وقت كان التصور فيه هو فرض التتريك على باقي مكونات الإمبراطورية، أو ما تبقى من “الإمبراطورية المريضة”.
بعد أربعة عشر عامًا من الصراع في سوريا وعليها، من أطراف مختلفة في الساحة السورية، تضمنت ثورة شعبية على نظام أصبح عاجزًا عن تقديم رؤية للمستقبل، وأيضًا صراعًا بين حركات الإسلام السياسي الفتية وذات الشعبية، والتواقة لسحب البساط من تحت نظام قومي عربي متهالك. وهي كذلك سنوات كانت مليئة بالشحن الطائفي والمذهبي، وصراعات إقليمية ودولية. ورغم ذلك، تبدو حركات الإسلام السياسي في سوريا مصممة على إعادة ملء الفراغ الذي خلّفه سقوط نظام البعث، ورغم الدمار المجتمعي والعمراني الذي طال البلد، يبدو الطريق إلى المستقبل في سوريا يمر عبر الذاكرة والتاريخ، ويتخذ مسارًا يشابه مسارات اتخذها النظام البعثي السابق؛ فيُعاد تعريف البلاد ومواطني البلاد وتعريف الإسلام وتعريف المسلم، فيما يبدو احتكارًا حصريًا لهذه السلطة الجديدة.
وعلى غرار التعريف الضيق الذي تبناه النظام البعثي السوري للعروبة وللعرب ولسوريا “قلب العروبة”، والتي تحولت حاليًا إلى “أرض الشام” لما لها من رمزية في الذاكرة العربية والإسلامية، كونها مقر أول إمبراطورية عربية كبيرة وشاسعة، وفيما بشّر النظام البعثي السابق بمركزية سوريا في القومية العربية مستندًا إلى تأسيس الحزب في دمشق ومركز أول مملكة عربية بعد هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأولى، تبدو مفردات السلطة الحالية لا تبتعد كثيرًا عن هذا التوجه. خصوصًا مع فرحة السقوط المدوي لنظام الأسد، الذي بدا تأكيدًا على أهمية هذه البقعة من العالم الإسلامي.
بعد أربعة عشر عامًا من الصبر والمكابدة، بدا الاحتفاء الإقليمي بالنظام الجديد مدويًا بالنسبة للقائمين على السلطة في سوريا، وبدا من المؤكد لهم أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، خصوصًا مع التأييد الشعبي لهذا المسار المنخرط تمامًا في الذاكرة، والمستبعد لأي تفكير في المستقبل، إلا ضمن حدود أساسيات البقاء: بقاء السلطة، وبالاستناد إلى شرعية خمسين عامًا من الاستبداد والقمع.
في هذا الجو المضطرب والقلق، تبدو فكرة العودة إلى إسلام ما قبل تسرب الأفكار القومية الغربية إلى المشرق العربي فكرة صعبة الطرح، فالقومي يتقاطع مع الإسلامي في عقلية السوري الحالي. كان النقاش على اسم الدولة السورية دليلًا على هذا التقاطع، في وقت كان من الطبيعي القطيعة مع مفردات النظام البعثي السابق. كان من المتوقع والمعقول أن يُناقش زاوية العودة إلى اسم الدولة ما قبل الوحدة، أو من قبيل إعادة إشراك مكونات سورية كانت تشعر بالغبن الثقافي، أو فتح الباب أمام مرحلة أخرى من تاريخ سوريا بعيدًا عن تصورات ومفاهيم غربية، في وقت يبدو الغرب نفسه يتخلى عنها ويتبرأ منها. منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أدت نتائج الحرب الكارثية، والتي حملت النازية مسؤوليتها، إلى نفور منها بعد أن كانت العنصرية القومية شيئًا اعتياديًا وطبيعيًا في أوروبا والولايات المتحدة قبل ذلك.
تجادل مؤسسو حزب البعث السوري بخصوص تعريف “العربي”، ورغم أن الأمر كان بين أخذ وجذب، فإن القوميين العرب المتشددين استندوا عمومًا إلى التعريف الثقافي اللغوي، إقرارًا باستحالة التعريف العرقي. فشعوب السلطنة العثمانية في بلاد الشام كانت مزيجًا من المجتمعات المتباينة، والتي من الاستحالة بمكان القول بوحدتها عرقيًا أو ثقافيًا. وحتى أوائل الخمسينيات، كانت هذه الأقليات العرقية والدينية تتمتع بحرية وخصوصية نسبية في ظل المزيج العثماني للسلطنة.
التعريف اللاحق الذي هيمن على الحزب بعد تغوّله أمنيًا في سوريا بعد انقلاب 1963، وتحوله إلى سلطة، وتحول عقيدته الراديكالية إلى عقيدة السلطة، هو تعريف أجهزة أمنه، الذي أصبح في نهاية حكم بشار مربوطًا بمدى الولاء للنظام البعثي ممثلًا في سلطة الديكتاتور. ولا مراء أن هذا التفكير كان جزءًا من منظومة الإقصاء الأمنية والسياسية. هذا التعريف الضيق للعروبة والعربي، والذي يُلبي حاجة السلطة للشرعية وللتفرد بالسلطة، أدى إلى نهاية الفكرة البعثية وتحطيمها حجرًا حجرًا، حتى أصبح الحزب معزولًا مجتمعيًا، وعاد غريبًا عن السوريين، وأصبحت لغته المستخدمة لغة خشبية لا تعكس سوى صلف النظام، ومادة لاعتذارياته وتبريراته في قمع الحريات العامة ونهب البلاد، والسير بها وبالشعب السوري إلى الهاوية.
إن تصور أن حركات الإسلام السياسي قد ورثت هذه الأفكار ودافعت عنها ضمنيًا، بحكم أن هذه الحركات أصبحت الوريث الحصري لدور القومية العربية، يتمثل حاليًا في إسلاميي “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها، حيث يندفع مكون إسلامي بعينه لملء الفراغ الذي خلفه أفول الحركة القومية العربية في المشرق العربي وأنظمتها. وإعادة تعريف الإسلام، بل وفرض مذهب إسلامي على المسلمين في سوريا، قد يؤدي إلى نتائج عكسية مدمرة على المجتمع السوري وعلى سوريا ككيان وبلد، في وقت لم نتخلص فيه من نتائج مرحلة البعث الكارثية على الإنسان السوري والمجتمع السوري.
في نهاية المطاف، لا يبدو أن سوريا الخارجة من عباءة البعث، والمتجهة إلى تصورات أخرى، قد خرجت بعد من أسر التجربة القومية، بل أعادت إنتاجها بمفردات مختلفة. المستقبل لا بد أن يُبنى على قراءة نقدية للإرث لا على إعادة تدويره تحت أسماء جديدة.