أدب
– أحمد العوض
سياط الجلاد المُعلّق على جدار الزنزانة التي شهدت هروب الكثيرين من الحياة تحت وطأة التعذيب، لم يكن أقصر من أن يصل إلى أفواه الأدباء وأقلامهم ليلجمهم عن تعاطي هموم المجتمع السوري وقلقه المحموم من الموت والحياة. ونزعات قائد البعث لم تكن أضعف من أن يهرع مرتزقة الكتب إلى تدوينها. وهكذا، حُظي بلاط القصر الأسدي بحفنة من الكتّاب الذين كتبوا له روايته التي ارتضاها عن الأحداث والوقائع، ليسلب السوريين آخر حقوقهم: روايتهم عن موتهم.
لم يُتطلّب الأمر من متعاطي الكلمة أكثر من أن يكونوا جلادين في بدلات رسمية وقبعات مميزة، ليتقنوا لعب دور القاتل الكمالي بالشكل المطلوب. وبالقدر ذاته، لم يُتطلّب من بعض الأدباء أكثر من أن يكونوا سوريين فقط، ليدركوا مسؤوليتهم في نقب جدران السجون الصحراوية والبيوت المرتعدة، ليصلوا إلى الشهود المُلجَمين، ويرووا الشهادات التي لن تُروى. خالد خليفة، ومديحه للكراهية، كان أحدهم.
“مديح الكراهية” كانت البضاعة الرائجة على مدى العقود الثلاثة التي حَكم فيها حافظ الأسد البلاد، بدءًا من صناعته معترك صراع الطوائف في الساحة السورية، وإقناعه الطائفة بأحادية تمثيله لها في هذا الصراع، مرورًا بصناعة الوحش – صناعة الجلاد الذي رُسِّخ به حكم العائلة – وصولًا إلى الجماهير التي لم تنجح أربعون سنة في جعلها تتقبل الذل أمرًا واقعًا، لتصدح في نهاية المطاف في الشوارع والأسواق: “الشعب السوري ما بينذل!”
خالد خليفة، واحد من ملايين السوريين الذين أضنتهم أيدي أفرع المخابرات، وسُكِنَت شكواهم في صدورهم الذبيحة، ظنًا من النظام أنه قادر على حكم المقموعين في مملكة الصمت، إلى الأبد، ودون صوت. إلا أن ذلك لم يكن إلا محض هلوسات حزب حاكم في بلاد أُغرِقَت في الدماء حين حُكِمَت، وستُغرق مرة أخرى حين يُطرَد منها ما تبقى من أبنائها ذليلًا.
لم يكن أرسطو عابثًا حين عرّف الإنسان بأنه حيوان ناطق. فالكلام معجزتنا. لكنه في تعريف آخر، يرى أن الإنسان حيوان سياسي. الكلام والبُعد السياسي، صفتان لازمتان للوجود البشري. ولذا فإن محاولات البعث في جعل جميع الشعب منتميًا إلى الحزب (بعد سياسي)، وصامتًا لا يفكر ولا يتكلم ولا يعترض ولا يناقش، لا بد أن تُقود إلى صراع قريب؛ أقرب مما كان البعث وحافظه يتخيلان.
خسارة النظام الحاكم في خالد خليفة كانت كبيرة. ففي الوقت الذي رُوِّهِنَ فيه على أحد وجهين: إما متحدّث بعثي، أو صامت حيادي، جاء خليفة ليقلب المعادلة رأسًا على عقب، ويُسطّر مع مجموعة من أدباء جيله الذين تكوّنت ذهنية معارضتهم المثقفة بعد مجزرة سجن تدمر وسجن حماة، سطرًا جديدًا نُقِش في الذاكرة السورية. سطرًا بدأوه بدموعهم، وحاولوا إنهاءه بدمائهم، وأخضعوا النظام لحقيقة أزلية: أنهم ثوار ناطقون!
في “مديح الكراهية”، كسر خليفة الصمت المليوني، وتكلم. تكلّم نيابة عن كل السوريين. عن كل من صمتوا ولم يستطيعوا رثاء موتاهم في مجازر حماة وحلب. عن كل من عوقبوا بالصمت في المنفردات، لا يُحدَّثون ولا يُحدِّثون. يجلسون، ويستمعون إلى أصوات المعذبين من غرف الموت. عن كل المظلومين الذين أغلق العسكر أفواههم قبل تنفيذ حكم الإعدام فيها، بغية منعهم من قول آخر كلماتهم: “طاب الموت!”
“أُعيد إلى الموت صفاته الحقيقية: غياب مفاجئ وثبات لجاذبية أرضية تعيد الأجساد إلى منبتها، واندماج كامل مع عناصر الطبيعة. أصبح الأحياء منشغلين بالحفاظ على حياتهم أكثر من تبجيل ذكرى الميتين في مدينة كانت تحيط الموت باحترام مبالغ فيه”.
يفتح خالد خليفة ذراعين واسعتين من حبر، ليحتضن ذراعَين أوسع من دم. يحاول أن يكون موجودًا في كل مكان: عند رأس كل نائحة، داخل كل زنزانة، على باب كل بيت عزاء. يحاول أن يلتقط ما عجزت أذنا هذا العالم عن التقاطه من شهقات وصرخات ونحيب، ليكتبه فيما لم يجد له اسمًا غير: “مديح الكراهية”.
نَثَر خليفة الشخصيات من جعبته نثرًا. عشرات الشخصيات تتوزع على خارطة الرواية: مريم وصفاء، رضوان وبكر وعمر، نذير ومروة، ليندا وسلافة وأم ممدوح. شخصيات من كل مكان: من بيت العائلة، من خلايا الجهاد، من فروع الأمن، من السجن، من الجامعة. يجمعهم شيء واحد: كلهم سوريون، كلهم صامتون، كلهم مقهورون.
في خضمّ هذه القيامة من الأسماء، يُنهي القارئ أكثر من أربعمئة صفحة، ليتنبه إلى السؤال الأهم: من هي البطلة؟ ما هو اسمها؟
لم تُترَك شخصية واحدة – مهما كانت ثانوية – دون أن تُعطى اسمًا وتُخزَّن في عقل القارئ عبر جملة أو مشهد أو لازمة شخصية، ما عدا البطلة: طالبة الطب في حلب. تلك التي عاشت كل المآسي، أُبعِدَت وسُجِنَت، فَقَدَت أمها وأخاها وأصدقاءها، خسرت أحلامها وطموحاتها، وكيانها، ثم ذاتها، فلم يبقَ منها غير الأحداث. خط باهت رُسِمَت عليه بعض المآسي، من دون اسم!
عنوان الفصل الأول هو مفتتح الرواية، أول ما تقع عليه عين القارئ: أربع نسوة يقودهن الأعمى رضوان، جيئة وذهابًا من حمّام السوق وإليه. يُسلَّم عليه في السوق، يعرفهم ويعرفونه، يجهلهم ويجهلونه، لا فرق. فحين ترافق الأصوات الظلمة – ظلمة أبدية كان رضوان واقعًا فيها – تعجز النسوة اللواتي يهتدين به في الطريق عن إدراك أنهن سيسقطن في ظلمة أشد، سقوطًا لا قيام بعده!
قد يكون هذا الأعمى مجرّد خادم في البيت، خادمًا لا يمتلك مؤهلات الخدم حتى، يُصغي إلى أوامر سيداته في النهار، ويحاول تركيب عطرٍ كان سيشتمه من زهرةٍ كان سيرى لونها في يد صبية ما، لو أنه كان مبصرًا. مشكلة رضوان أنه كافح ظلمته بالروائح، في عالم لا يعرف منه سوى رائحة الدماء المتخثرة، والدموع الخجلى، والعطور الفرنسية الراقية!
“أحسستُ بتعاطف كبير معه وأنَّبتُ نفسي، كراهيتي منعته من مسامرتي في وحدتي، خطر لي إيقاظه والبكاء بين يديه، أرعبتني فكرة البكاء بين يدي خادم، أغلقت الباب وعدت إلى سريري مثقلة بالكراهية، اقتنعت أنها تنقذني من تعاطف سخيف يهدد وجود القوة داخلي، ويجعلني ريشة تبحث عن مستقر لها في أرض مائعة دون حدود”.
يدعونا خليفة ألا نُحيل سورية إلى امرأة تمشي مع النساء خلف أعمى، لتغرق في ظلمة سرمدية. يدعونا إلى تحرير عيونها التي فاضت أنهارها طيلة عقود. إلى التجرؤ على البنادق والرتب والعسس. إلى فتح عيوننا، عيون أمنا، المرأة التي هزلت لكثرة ما نعت أبناءها وبكَتهم، إلى النظر حولنا، إلى رؤية الجثث التي لم تجد شواهد تُعرّف بها، إلى البكاء عليها، وإلى ما هو أهم من الرؤية: إلى البصر!
لن يرى أي أعمى ما لم يفتح عينيه. قد يمنعه واقعه من فتحهما، حتى لا يرى الدماء المتناثرة على أعين الرائين. إلا أن الاحتجاب خلف بياض العين الثكلى، هو شكل من أشكال التعلّق بأمل كاذب. أمل أن يصير العالم أجمل قبل أن نراه. أمل أن تكون الظلمة العمياء أخفّ من ظلمة الواقع المر. لكنه يبقى – في نهاية المطاف – أملًا كاذبًا. الأمل هو الوجه المُجمَّل لجحيم اللا يقين.
الكتابة، دعوة خليفة إلى الإبصار. أن ندوّن ما كانت تريد أن تقوله أمّ أُعدِم أبناؤها قبلها في مجزرة حماة. ما كان يتمنى شابّ لم يبلغ الثامنة عشرة أن يوصله إلى أمه قبل أن تحكم عليه ديكتاتورية القصر الجمهوري بأنه “إخواني” لا بد من موته.
هذا ما قاله خليفة في أحد آخر حواراته المصورة في حياته: “أعتقد أن السوريين سيكتبون ألف عام عما حدث. ألف عام ستتناقل فيها الأجيال القصص والحكايات ونعيد فيها كتابة ما حدث في السنوات العشر الماضية. من يعرف ماذا حدث في سورية، يعرف أنه حدث لا يمكن اختصاره!”