سياسة

الظل العابر للحدود: عقدة المقاتلين الأجانب في سوريا

أبريل 10, 2025

الظل العابر للحدود: عقدة المقاتلين الأجانب في سوريا

مع دخول سوريا مرحلة انتقالية دقيقة، يعود ملف المقاتلين الأجانب إلى الواجهة كأحد أبرز التحديات أمام جهود الاستقرار وإعادة بناء الدولة. ولا يقتصر هذا الملف على البعد الأمني أو المحلي، بل يشكّل أحد الشروط الأساسية التي وضعتها الولايات المتحدة للتعامل مع الحكومة السورية الانتقالية ورفع العقوبات، بينما تصرّ أنقرة على إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني المرتبطين بقوات سوريا الديمقراطية (قسد).

 

 

في ظل هذه الضغوط، تواجه الحكومة الانتقالية تعقيداً مضاعفاً: التعامل مع مقاتلين عقائديين عابرين للحدود، موزعين على فصائل مختلفة، وفي الوقت نفسه الاستجابة لمطالب دولية متباينة. ويحاول صانع القرار السوري تفكيك هذا الملف باستخدام أدوات غير تقليدية، تمزج بين الضغط الأمني والدبلوماسية الخلفية والمعالجة الفكرية، مستفيداً من تجارب سابقة لعدد من الدول في احتواء المقاتلين الأجانب في دول أخرى.

 

 

ورغم حساسية الملف، إلا أنه قد يتحوّل إلى فرصة استراتيجية لإظهار قدرة الدولة الجديدة على فرض سيادتها، وبناء نموذج مختلف يعالج جذور التطرف دون الانزلاق إلى فوضى الإقصاء أو العنف الشامل.

 

 

فقد شهدت سوريا تدفق مقاتلين من أكثر من 18 دولة، ما أدى إلى تشكّل مجموعات متعددة المرجعيات. في الشمال الغربي، ضمت “تحرير الشام” فصائل أجنبية مثل “أجناد القوقاز” الشيشانية و”الحزب الإسلامي التركستاني الإيغوري”، إلى جانب تنظيم “حراس الدين” الذي ظهر عام 2018 كفرع للقاعدة وضمّ مقاتلين من عدة دول عربية.

على الجانب الآخر، تضم “قسد” مقاتلين أكراد غير سوريين مرتبطين بحزب العمال الكردستاني، من تركيا وإيران، بالإضافة إلى مقاتلين أمميين يساريين قدموا من أوروبا. هذا التنوّع خلق مشهداً معقّداً تتداخل فيه الأجندات الدولية والمحلية داخل الصراع السوري.

 

 

تفكيك الجماعات: أساليب ناعمة وتدخلات محلية

 

في ظل الحكومة السورية الانتقالية الجديدة، برز توجّه جاد لمعالجة ملف المقاتلين الأجانب كجزء أساسي من شروط إحلال الاستقرار. كشف مصدر خاص لموقع “سطور” أن الحكومة بدأت بالفعل بالتحرّك على خط تفكيك تلك المجموعات عبر التواصل مع شخصيات عربية وسورية ذات نفوذ وتأثير على بعض المقاتلين الأجانب.

 

 

تهدف هذه الاتصالات إلى تفتيت قوة الفصائل الأجنبية وإقناع أفرادها بالاستجابة للضغط الرسمي والتخلي عن القتال. فبدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة فقط، تُستخدم الدبلوماسية الخلفية بالتعاون مع زعماء دينيين أو قبليين من بلدان المقاتلين الأصلية أو من المجتمع المحلي السوري، للتأثير في قرار هؤلاء المقاتلين. على سبيل المثال، جرى التواصل مع قيادات ومراجع جهادية سابقة في بلدان عربية لها تأثير فكري على مقاتلي “حراس الدين” والقاعدة لإقناعهم بأن “المهمة انتهت” وحان وقت وقف القتال.

 

 

كما لجأت السلطات إلى وجوه سورية لها علاقات قديمة مع بعض قادة الفصائل الأجنبية ممن قاتل في أفغانستان والعراق لتسهيل إقناعهم بقبول حلول سلمية. هذه المقاربة تشير إلى إدراك الحكومة الانتقالية أن تفكيك الشبكات المقاتلة يحتاج أدوات ناعمة ورديفة إلى جانب القوة العسكرية، خاصةً حين يتعلّق الأمر بمقاتلين عقائديين يحتكمون للفتاوى والتوجيهات الفكرية.

 

 

معالجة مجزّأة: حلّ التنظيمات وعزل القيادات المتطرفة


اتبعت الحكومة الانتقالية نهجاً مجزّأً في التعامل مع التنظيمات الأجنبية سابقاً، فواجهت كل تنظيم على حدة بدلاً من اعتبارهم كتلة واحدة. تعاملت مع “حراس الدين” (فرع القاعدة) عبر ضغوط عسكرية وأمنية حتى أعلن حلّ نفسه نهاية 2024، رغم استمرار التحالف الدولي في استهداف قادته لاعتبار الحل خطوة شكلية. بالتزامن، عُزل قادة متشددون مشكوك في ولائهم.



سعت الإدارة لتفريق العناصر الأجنبية داخل “الجيش السوري الجديد”، ومنعت تمركزهم في تشكيلات أو مناطق موحدة، وأقصت القادة الذين يحملون فكراً متطرفاً أو لا يوالون الدولة. طُبّق هذا النهج على تنظيم “جند الشام” بقيادة مسلم الشيشاني، إذ فُرض عليهم تسليم السلاح أو مغادرة سوريا، بهذه السياسات التفصيلية، تعمل الحكومة على تفكيك خطر المقاتلين الأجانب تدريجياً.



ضبط الخطاب الديني وفرض الأمر الواقع 


إلى جانب الإجراءات الأمنية، أدركت السلطة أن مواجهة التطرف تتطلب معالجة فكرية ودينية، فسعت إلى ضبط الخطاب الديني عبر مؤسسات جديدة. ففي مارس 2025، شكّل الرئيس أحمد الشرع “المجلس الأعلى للإفتاء” لتوحيد المرجعية الدينية وضمان صدور الفتاوى عن جهة جماعية مسؤولة. ترأس المجلس الشيخ أسامة الرفاعي، وضم 14 عالماً من توجهات فقهية متعددة، ونصف المجلس من المدرسة الصوفية الأشعرية المخالفة للفكر السلفي الجهادي، كما عيّن الدكتور محمد شكري وزيراً للأوقاف، في خطوات تعكس توجهاً واضحاً لكسر احتكار الخطاب السلفي الجهادي وتعزيز الانفتاح الديني.



أما وزارة العدل، فيقودها مظهر الويس، أحد رموز تحوّل هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية إلى فاعل يسعى للحكم، ما يجعله عنصراً حاسماً في كبح المتشددين داخل الهيئة، هذه الإجراءات تشكّل إطاراً فكرياً وقانونياً موحداً يسعى لحماية المجتمع من عودة الفكر الجهادي، ولفرض واقع ديني معتدل يساعد في احتواء أو تحييد المقاتلين الأجانب ضمن رؤية أكثر اتزاناً.



ضغوط متضاربة: كيف ينظر الغرب والشرق 


علي الصعيد الدولي، تتفق الولايات المتحدة وحلفاؤها على ضرورة التعامل الحذر مع ملف المقاتلين الأجانب لتفادي خطر انتشارهم أو تمردهم، مع رفض تمكينهم من مفاصل الدولة الجديدة. واشنطن اشترطت إبعادهم أولاً، ولكن يبدو آن هناك تراجعاً في الموقف الأميركي حيث يمكن استيعابهم ضمن تشكيلات مركزية وتحجيم أدوارهم تدريجياً، وأبدت تحفظها على تعيين ستة منهم في مناصب عليا، رغم جنسياتهم المتنوعة. برّرت الحكومة السورية الانتقالية ذلك بعدم إمكانية إعادتهم لبلدانهم وخطورة تركهم خارج السيطرة، مشيرةً إلى اندماج بعضهم بالمجتمع السوري. وتعمل الإدارة على توزيعهم في قطاعات أمنية متفرقة وإبعاد الأكثر تطرفاً، بموافقة غربية بهدف منع تحوّل سوريا إلى ملاذ للفوضى. ويبدو أن الرؤية الغربية واضحة: لا مانع من استيعابهم كمقاتلين، شرط ألا يصبحوا مؤثرين أو فاعلين في مواقع قيادية.



من بين أكثر فئات المقاتلين الأجانب تعقيداً في سوريا يبرز المقاتلون الشيشانيين والداغستانيين من القوقاز في روسيا، والإيغور المرتبطين بالحزب الإسلامي التركستاني في الصين. يشكّل هؤلاء تحدياً خاصاً بسبب ولائهم العقائدي وعدائهم لموسكو وبكين، ما يدفع دمشق لتجنب تسليمهم مباشرة والبحث عن بدائل كتشجيعهم على المغادرة أو تحييدهم داخلياً. في المقابل، لم يضغط الغرب علناً لتسليمهم، بل ركّز على فصلهم عن مراكز التأثير ضمن استراتيجية تهدف لضبط الملف دون تفجير حساسيات دولية.



تركيا وحزب العمال:  حجر العثرة في وجه ضم الشرق


وتضع تركيا ملف المقاتلين الأكراد الأجانب المرتبطين بحزب العمال الكردستاني شرطاً أساسياً في أي تسوية بشمال سوريا، مطالبةً بخروجهم الكامل، خاصة من القيادات ضمن “قسد”. وبعد الاتفاق المبدئي بين “قسد” ودمشق، شددت أنقرة على ضرورة نزع سلاح “الإرهابيين” وخروج الأجانب. وأبدى قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، مرونة حين أعلن استعداد المقاتلين غير السوريين للمغادرة إذا تحقق وقف إطلاق نار مع تركيا، في أول اعتراف رسمي بوجود كوادر من حزب العمال. ومن المنتظر أن يبدأ عبدي بالتعاون مع حكومة دمشق خطوات فعلية للانفصال عن حزب العمال وسيطرته الأمنية على “قسد” بذلك يسهم في تعزيز الاستقرار وتذليل معيقات دمج “قسد” ضمن الدولة السورية دون استفزاز أنقرة أو التصعيد عسكرياً.



الدمج أو تصدير الأزمات: دروس من التجارب الدولية


في مواجهة هذا الملف، يمكن للحكومة السورية الاستفادة من تجارب دولية سابقة، حيث واجهت دول عديدة تحديات مشابهة في التعامل مع المقاتلين الأجانب بعد انتهاء النزاعات.



تُعد تجربة أفغانستان في الثمانينيات مثالاً بارزاً، إذ أدى فشل احتواء “الأفغان العرب” بعد انتهاء القتال إلى ظهور تنظيمات كـ”القاعدة”، التي استهدفت دولاً غربية وعربية. وتعلّمت الولايات المتحدة من هذه التجربة أن تجاهل المقاتلين الأجانب قد يحوّلهم إلى تهديد عالمي.

في تجربة البوسنة والهرسك (1992–1995)، قُدِّم نموذج لمقاربة مزدوجة تجاه “المجاهدين” الأجانب: فبعد الحرب، تم ترحيل معظمهم أو منح بعضهم الجنسية بشرط التخلي عن القتال. من اندمج منهم عبر الزواج والاستقرار مُنح فرصة البقاء، بينما رُحّل الآخرون رغم المخاطر. وتجسّد هذه التجربة توازناً بين الاحتواء والإبعاد.



في أميركا اللاتينية، رغم ندرة “المقاتلين الأجانب” بالمعنى الجهادي، شهدت حركات التمرد اليسارية دعماً من مقاتلين أمميين، بعضهم اندمج سياسياً وعسكرياً في الدول التي قاتل لأجلها. المثال الأبرز هو “تشي” غيفارا، الذي قاتل مع كاسترو في كوبا، نال الجنسية الكوبية وتولى مناصب قيادية، وبالمثل، منحت فرنسا جنسيتها لأجانب شاركوا في المقاومة ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، ما يؤكد أن احتواء المقاتلين الأجانب ممكن عند توفر إرادة سياسية ورؤية واضحة تضمن استيعابهم دون المساس بأمن الدولة.



وعلى النقيض، فإن غياب التخطيط كما حدث مع مقاتلي القاعدة و”داعش” بعد أفغانستان والعراق أدى إلى فوضى إقليمية ودولية. سوريا تسعى اليوم لتفادي تلك الأخطاء من خلال سياسة تجمع بين احتواء من يقبل الاندماج، وإقصاء المتشددين. كما تستلهم تجارب دول كالسعودية وسريلانكا وكولومبيا في نزع التطرف وإعادة الدمج، إدراكاً بأن نجاح المرحلة الانتقالية يعتمد على معالجة هذا الملف بحذر وفعالية.



من أجل سوريا المستقرة: عقدة لابد من حلها


يُعد ملف المقاتلين الأجانب أحد أعقد تحديات المرحلة الانتقالية، لكنه يمثل أيضاً فرصة نادرة لإثبات قدرة الدولة السورية الجديدة على معالجة الملفات الشائكة بحكمة ومسؤولية. فنجاح التعامل مع هذا الملف لا يقتصر على تفكيك التنظيمات المتطرفة، بل يشمل احتواء من يقبل الاندماج، وعزل المتشددين، وضبط الخطاب الديني، بالتعاون مع شركاء إقليميين ودوليين.



وإذا ما أُدير هذا الملف بوعي وتوازن، يمكن تحويله من عبء أمني إلى مكسب سياسي يعزز السيادة، ويفتح الطريق نحو بناء دولة مستقرة، أكثر تماسكاً وسيطرة على مصيرها.

شارك

مقالات ذات صلة