سياسة
تمثل غزة نقطة محورية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي القضية الإنسانية التي تحمل آمال وآلام الأمة العربية، بل تعدت ذلك وأصبحت اختباراً أخلاقياً للعالم بأسره. فالمأساة الإنسانية المستمرة التي يشهدها القطاع هي انعكاس صارخ لانتهاك كافة المعايير الدولية لحقوق الإنسان، حيث شهدت غزة صراعات دامية بين الفصائل الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، أسفرت عن قتل مئات المدنيين الأبرياء كما طبق عليها ممارسات ممنهجة من الحصار والتجويع والقصف وهدم البنية التحتية، مع غياب شبه تام لأي مساءلة أو تدخل دولي جاد. يتحول القطاع المحاصر إلى نموذج معقد للمعاناة الجماعية، ما يجعل من الواجب تسليط الضوء على مختلف أبعاد انتهاك حقوق الإنسان في غزة.
منذ عام 2007، خضعت غزة لسيطرة حركة حماس بعد صراع مع حركة فتح، ما أدى إلى انقسام سياسي بين الضفة الغربية وغزة، قامت إسرائيل بفرض حصار جوي وبري وبحري على قطاع غزة، مما أدى إلى شلل اقتصادي وصعوبات معيشية كبيرة بتحملها السكان. شمل الحصار إغلاق المعابر ومنع دخول السلع الأساسية وحرمان السكان من حرية التنقل، مما جعل القطاع بمثابة سجن مفتوح. وقد أكدت تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 80% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية، فيما يعيش نحو 70% منهم تحت خط الفقر. كما أن 95% من مياه الشرب غير صالحة للاستخدام البشري، تنقطع الكهرباء في قطاع غزة لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، مما يؤثر على كافة مناحي الحياة من التعليم إلى الرعاية الصحية.
شهد قطاع غزة سلسلة من الحروب الإسرائيلية الدامية في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، وأخيراً 2023، استخدمت فيها إسرائيل قوة مفرطة استهدفت المدنيين والمنشآت الحيوية. وقد دُمّرت خلال العدوان الأخير أكثر من عشرين منشأة طبية، بما في ذلك مجمع الشفاء الطبي، بينما تشير تقارير منظمة اليونيسف إلى مقتل أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة طفل خلال أقل من شهرين. كما استُهدفت مئات المنازل التي دمرت فوق ساكنيها، وقُصفت مدارس ومراكز لجوء، ما يمثل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني.
يشكل انهيار القطاع الصحي والتعليمي في غزة نتيجة مباشرة للتصعيد العسكري المستمر، والتدمير الكامل للبنية التحتية الذي طال جميع القطاعات الخدمية، وبشكل خاص المنشآت الصحية، ومنع دخول أي إمدادات طبية للقطاع، مما أدى لنقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية. كما أدى منع سيارات الإسعاف والطواقم الطبية من العمل بحرية الوصول للجرحى والمتضررين، بل وتعرضت للاستهداف المباشر.
أكثر من 60% من المرافق الصحية خرجت عن الخدمة بسبب القصف أو نقص الوقود. أما في قطاع التعليم، فقد تضررت أكثر من 150 مدرسة وتحولت العديد منها إلى مراكز إيواء، لم تقتصر الأزمة فقط على تدمير المدارس بل هناك نقص حاد في المعلمين والموارد التعليمية نتيجة الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، بالإضافة لانخفاض التقدير المالي لقطاع التعليم بسبب الاوضاع المعيشية المتردية.
رغم التوثيق الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان في غزة من قبل منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، إلا أن تسييس ملف حقوق الإنسان في القضية الفلسطينية واستخدام بعض الدول نفوذها لعرقلة أو تخفيف تأثير بعض المنظمات الحقوقية لعدم الضغط على إسرائيل، مما أدى لتعطيل قرارات مجلس الأمن، بفعل الفيتو الأميركي المتكرر، في حين لم تحرز المحكمة الجنائية الدولية أي تقدم يُذكر في تحقيقاتها المتعلقة بجرائم الحرب.
كما أدى الصراع طويل الأمد بين فلسطين وإسرائيل لخلق حالة نزاع معقدة فأصبح من الصعب على المنظمات الحقوقية اتخاذ قرارات فعالة وحاسمة كذلك هناك معوقات كبيرة في تنفيذ هذه القرارات بسبب الأوضاع السياسية المتشابكة.
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “على هذه الارض ما يستحق الحياة” وأجزم بأن شعب غزة يؤمن بهذه المقولة رغم الموت المختبئ في كل شجرة وبيت ومدرسة يتربص بالأبرياء إلا أن الحياة تزهر في وجه الأطفال في دعاء الشيوخ. هذا الشعب الحي الذي لا يموت.
رغم الحصار والقصف والدمار، لا يزال الفلسطينيون في غزة. يعيدون بناء بيوتهم، يزرعون أراضيهم، ويعلمون أبناءهم في مدارس مؤقتة أو وسط الأنقاض. هذا الصمود ليس مجرد فعل بقاء، بل هو موقف سياسي وإنساني في وجه آلة الحرب ومشاريع الإبادة الناعمة.
بات لا يخفى على أحد أن هناك صمت عربي وتجاهل واضح لما يحدث لغزة، وهذا بسبب الانقسام السياسي العربي والتحديات الداخلية العربية، والضغوطات الدولية والإقليمية والتطبيع مع إسرائيل، بالإضافة للضعف المؤسساتي في الجامعة العربية.
هذا الصمت كان له نتائج سلبية فقد زاد من المعاناة الإنسانية في غزة، وأدى لتراجع مكانة القضية الفلسطينية، وأضر بالسمعة العربية، مما أصاب الشعوب العربية بالخذلان وعدم الأمان.
بات من الضروري الآن تجاوز العالم العربي هذه الحواجز السياسية لكي يعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها في الوعي العربي من خلال اتخاذ مواقف موحدة تعيد لفلسطين وقضيتها وزنها العالمي.
من الضروري الآن التحرك الجاد على كافة المستويات، لرفع الحصار سياسياً وقانونياً، ودعم الإعمار والبنى التحتية، وتوفير الحماية الدولية للمدنيين. كما أن دعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية.
ما يجري في غزة لا يمكن تصنيفه كأزمة إنسانية عابرة، بل هو نموذج لانهيار القيم الدولية، وتواطؤ المجتمع الدولي مع الجريمة. حقوق الإنسان في غزة تُنتهك بشكل منهجي، من الحق في الحياة إلى التعليم والصحة والتنقل. العدالة لن تتحقق بالصمت، ولا بالمجاملات السياسية، بل بمواقف جادة تستعيد للإنسان الفلسطيني حقه الطبيعي في الحياة والكرامة والحرية.