مقالات سوريا
تعيش جغرافيا الجنوب السوري اليوم حالةً من الغليان والتعقيدات الخطرائطية سببها سياسة إسرائيل الرامية إلى خلق حالة فوضى وتشرذم تُساعدها في تبرير توجهاتها العسكرية جنوب سوريا أمام المجتمع الدولي، وربما تكون إسرائيل أيضًا ساعية إلى خلق حاجة سورية للتطبيع معها لضمان وحدة البلاد ووقف الهجمات، وتتجلى هذه السياسة الإسرائيلية في خطوات متتالية بدأتها بعد ساعات من هروب بشار الأسد إلى موسكو فجر الثامن من كانون الأول الماضي.
السياسة التوسعية الإسرائيلية والهجمات الأخيرة جنوب سوريا، والتي أودت بحياة نحو عشرة مدنيين وتركت نحو 22 جريحًا، تثير حالة كبيرة من الغضب الشعبي عند السوريين، وكان ذلك جليًّا في المظاهرات التي شهدتها نوى في درعا أثناء تشييع ضحايا القصف الإسرائيلي، كما تجلى أكثر في قيام السوريين بتأدية صلاة الغائب على الضحايا في محافظات عدّة. هذا الغضب الشعبي من الانتهاكات الإسرائيلية تدرك تداعياته كثير من الدول العربية والأوروبية، والتي سارعت إلى إدانة الهجمات الإسرائيلية أو حذرت من تداعياتها على جهود إرساء الاستقرار في سوريا.
خطوات التفخيخ
عملت إسرائيل منذ سقوط النظام السوري على تفخيخ الجنوب السوري بتعقيدات كثيرة، متذرعة بأن خطواتها تأتي في سياق حماية أمنها القومي من أي تهديد مصدره سوريا، ولعلّ تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تستهدف السلطة الجديدة في سوريا خير دليل، فهي تعمل على شيطنة السلطة السورية على المستوى الداخلي في إسرائيل، وعلى المستوى السياسي عند حلفائها في أوروبا وواشنطن، والغاية هي الحصول على تأييد دولي لتوغلها العسكري جنوب سوريا، وهجماتها على المنشآت العسكرية في عموم البلاد.
الخطوة الأولى التي اتّبعتها إسرائيل كانت غارات جوية مكثفة شنتها على الجغرافيا السورية عقب سقوط نظام الأسد، والتي تجاوزت بحسب تقديرات غير رسمية حاجر الأربعمئة غارة خلال أيام قليلة، استهدفت البنية العسكرية التي تركها الأسد، وهي متهالكة أصلًا. الغارات بررتها إسرائيل بأنها خطوة لضمان أمنها بعد سقوط النظام، ورغبتها بأن تكون سوريا دولة منزوعة السلاح. الجيش الإسرائيلي قال في شهر كانون الأول إن الغارات استهدفت مخزونات الأسلحة الاستراتيجية السورية، ودمرت الأسطول السوري. غارات هي الأعنف على سوريا ضربت قائمة كبيرة من الأهداف (مطارات عسكرية، بطاريات مضادة للطيران، الصواريخ، الطائرات المقاتلة، مواقع إنتاج وتخزين الأسلحة، ومراكز البحوث العلمية). إسرائيل هدفت إلى تدمير القدرات العسكرية المتطورة المتبقية في سوريا كخطوة أولى في استراتيجيتها حيال سوريا بعد الأسد. هذه الاستهدافات مستمرة دون توقف لمنع سوريا الجديدة من إصلاح البنية العسكرية السورية وتأسيس جيش جديد، ويبدو أن إسرائيل ستستخدم هذا النهج في حال لم تجد مزاجًا دوليًا رادعًا لها.
الخطوة الثانية كانت التوغلات البرية لقواتها في سوريا مستغلة الواقع الجديد، حيث توغلت إسرائيل مباشرة داخل الأراضي السورية، وبدأت باحتلال المنطقة السورية العازلة ومنطقة جبل الشيخ، معلنة بشكل غير مباشر انتهاء الاتفاقية الخاصة بفض الاشتباك عام 1974. وكانت سيطرة إسرائيل على جبل الشيخ تحرك استراتيجي يُمكنها من خلاله كشف ومراقبة مناطق في العمق السوري تصل حتى وسط العاصمة دمشق. ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل بدأت توغلات أكبر وصلت إلى مناطق في درعا لم تكن فيها قبلاً، ثم نفذت مداهمات وسيطرة على مواقع أسلحة تركتها قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران. تلاها مطالبات من قبل الجانب الإسرائيلي للأهالي بتسليم سلاحهم الفردي، ويقول كثير من المدنيين في قرى القنيطرة إن الجانب الإسرائيلي حثّهم على عدم مغادرة بيوتهم والاكتفاء بتسليم ما لديهم من سلاح ليضمنوا سلامتهم وسلامة أراضيهم.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها سطور، فإن الجيش الإسرائيلي حاول عدة مرات في قرى ضمن القنيطرة استمالة الأهالي من خلال إرسال تطمينات لهم بأن غاية الجيش الإسرائيلي هي جمع السلاح فقط ووعدوهم بتقديم مساعدات إنسانية لهم، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل وسط إصرار الأهالي على انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى المناطق التي كان فيها قبل سقوط النظام.
الخطوة الثالثة في استراتيجية إسرائيل جنوب سوريا هل خلق حالة من عدم الأمان بين مكونات سورية تعايشت بسلام وكانت قادرة على حل إشكالياتها الاجتماعية عبر وسطاء محليين وشخصيات اعتبارية عند الأهالي، وتمثلت خطوة إسرائيل بإعلانها أكثر من مرة رغبتها حماية الدروز في سوريا، رغم أن الدروز لم يتعرضوا لأي هجمات بعد سقوط النظام، بل حتى إن هناك شرائح اجتماعية ودينية عسكرية رئيسية لديها علاقات متينة مع الإدارة السورية الجديدة حتى ما قبل سقوط النظام. الغاية الإسرائيلية هي خلق مخاوف وهمية بين صفوف بعض الدروز وشعور بعدم الأمان وذلك في سبيل تشتيت الرأي العام في السويداء وإضعاف الوحدة المدنية بين محافظة السويداء ودرعا. وبذلك تجعل الأرضية جاهزة لصراعات محلية تُمكنها من تعزيز سرديتها بأن الجنوب السوري هو مصدر تهديد لأمن إسرائيل.
أما الخطوة الرابعة، فتُشبه الاستراتيجية الإيرانية، من حيث محاولة استغلال الحاجة المدنية للعمل والنقد، وتقديم عروض عمل لهم مقابل المال. وكانت إيران قد سعت خلال سنوات طوال استمالة الأهالي ماليًا مستغلة الحاجة والفقر، ورغم نجاح هذه الاستراتيجية المحدود إلا أنه نجاح مؤقت تلاشى مع شعور السوريين باقتراب نهاية الأسد ونظامه. بعض المدنيين في السويداء والقنيطرة قالوا لسطور إن المزاج العام رافض لفكرة العمل مع إسرائيل، وذلك لوعي الأهالي بأن الغاية الإسرائيلية هي استغلال الأهالي لتثبيت سيطرتها الاحتلالية لأراضٍ سورية، وإضعاف للوحدة السورية على المستوى الجغرافي والاجتماعي.
من المستفيد؟
على الرغم من أن خطوات إسرائيل التفخيخية للجنوب السوري هي لخدمة الاستراتيجية العسكرية والأمنية الإسرائيلية، إلا أن إيران مستفيدة أيضًا من هذا التفخيخ، فهي تعمل بجد لاستعادة نفوذها في الجنوب السوري والذي خسرته مع سقوط النظام، متحججة بأن غايتها مساعدة الأهالي على حماية أنفسهم ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مستخدمة سردية إيهامية قديمة متجددة تستخدمها في منطقة الشرق الأوسط، سردية مفادها أن الدول العربية والإقليمية عبارة عن عملاء لإسرائيل، وأن إيران هي الجهة الوحيدة في العالم التي تدعم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وخلال الأيام الماضية نشطت الصفحات والمعرفات التابعة للمحور الإيراني بأخبار تُمجد صمود الأهالي في الجنوب السوري، وتحاول نسب الفضل إلى خطواتها السابقة؛ في تأسيس روح المقاومة الشعبية ضد إسرائيل.
ومن غير المستعبد أن تستغل إيران التعقيدات في الجنوب السوري لخلق فوضى أمنية، أملاً في أن تُدخل البلاد في حرب على جبهة إسرائيل، بالتزامن مع مساعيها الرامية لتأجيج النعرات الطائفية في منطقة الساحل السوري، وبذلك تدخل البلاد في فوضى متعددة الأطراف لتسهيل عودتها وتعويض خسارتها التاريخية لنفوذها في منطقة الشرق الأوسط.
الحكومة السورية الجديدة، والدول العربية والإقليمية، والمجتمع الدولي أمام امتحان صعب، فالانتهاكات الإسرائيلية للجنوب السوري تؤسّس لغضب شعبي يمكن استغلاله من قبل أطراف عديدة، أو يمكن أن يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة وهجمات شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي. إيران اليوم تنظر بعين مبتسمة لما يحدث في الجنوب، وإسرائيل باستعراض القوة تخدم نفسها وعدوّها. التعقّل السوري اليوم هو مؤسس الحل، لكنه ليس الحل بذاته، إذ ينبغي على الدول العربية الغرب والولايات المتحدة الضغط لإيقاف الانتهاكات الإسرائيلية وتعزيز جهود دعم الاستقرار في سوريا، وقطع الطريق على العدو المشترك للجميع، إيران.