سياسة

ألمانيا وسوريا ما بين التقسيم والوحدة 

أبريل 3, 2025

ألمانيا وسوريا ما بين التقسيم والوحدة 

رند غادري – عمّار البزم


“من ليس له تاريخٌ فلسفي، غالباً سيجد صعوبةً في استشراف مستقبلٍ حُرّ” – إلهامٌ من روح الفلسفة الألمانية، يذكّرنا دائماً بأنّ الفكر الحرّ والنقدي جزءٌ لا يتجزأ من أي وحدةٍ حقيقيةٍ ومستدامة. لا تكاد تجربة توحيد الألمانيتين بعد سقوط جدار برلين ذلك الحاجز الخرساني في ليلة 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 تبتعد كثيراً عن أن تكون درساً تاريخياً وفلسفياً في آنٍ معاً. مرّ أكثر من ثلاثة عقود على إعادة توحيد ألمانيا، وما زالت آثارُ التقسيم ماثلة في الذاكرة الجماعية، إذ إنَّ الاندماج لا يُقاسُ فقط بنجاح المؤسسات السياسية، بل يتغلغل في النسيج الاجتماعي والثقافي والنفسي للأفراد. ولعلّ هذه التجربة تفتح باباً واسعاً للتأمل الفلسفي حول معنى الوحدة، وطبيعة الهوية المشتركة، وكيفية التعامل مع إرث الماضي في إطار بناء المستقبل. 


بعد 14 عاماً من الحرب في سوريا، شهد العاشر من آذار 2025 إعلاناً مشابهاً، توحيد شرق البلاد وغربها وإعلان سوريا الموحدة. لكننا وقد خبرنا مرارة الحرب وعرفنا ثمن الانقسام، نعلم تماماً أن الإعلان عن الوحدة لا يعني بالضرورة اكتمالها لوجود عقبات كثيرة. في ألمانيا، كان يُقال دائماً إن “الشرق والغرب يتكلمان الألمانية… لكن لا يفكران بنفس اللغة”. يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنَّ الحريّة أساسية في بناء الذات الإنسانية وتحقيق الاستقلال العقلي والأخلاقي. إبّان تقسيم ألمانيا، عاش مواطنو ألمانيا الشرقية تحت نظام شمولي يُقيّد الحريات ويضع الأفراد في إطار أيديولوجي مُحدد. وفي الجهة الغربية، وإنْ كانت الحريات أوسع، ظلّ المجتمع منغمساً في الاقتصاد الرأسمالي والمنافسة الحرة. على المستوى الفردي: طرح سؤال “من نحن؟” نفسه بقوة بعد سقوط الجدار؛ إذ اكتشف الألمان في الشرق أنهم لم يختاروا نمطاً مجتمعياً أقرب إلى الرأسمالية من تلقاء أنفسهم، بل فُرض عليهم بشكلٍ أو بآخر بفعل عوامل خارجية. على المستوى الجماعي: إعادةُ تعريف الهوية الجماعية للألمان-التي كانت منقسمةً رسمياً لعقود- طرحت تحدياتٍ ثقافية وسياسية كثيرة. هنا يحضرنا مفهوم الاعتراف لدى الفيلسوف الألماني أكسل هونيث، الذي يؤكّد على أنّ الهوية الفردية والجماعية تحتاج إلى اعتراف متبادل بكرامة الآخر وتجربته التاريخية. ففي عملية التوحيد، لم يكن الاعتراف بتجربة الشرق المؤلمة كافياً أحياناً، ما خلّف شعوراً بالتهميش لدى بعض الشرقيين. كما كانت ألمانيا مقسمة بين غرب ليبرالي متحالف مع الناتو، وشرق اشتراكي تحت النفوذ السوفييتي والنظام الاشتراكي، سوريا أيضاً عاشت خلال الحرب انقساماً واضحاً بين مناطق مختلفة النفوذ والتوجهات: الشرق السوري كان تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، إلى جانب وجود قوات التحالف الدولي وتحكمه إدارة قائمة على تجربة الحكم الذاتي. الشمال الغربي كان تحت سيطرة هيئة تحرير الشام إلى جانب بعض الفصائل الأُخرى وتحكمه تجربة حكومية منفصلة تُكنَّى بالحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ والاسم كان تمهيداً لتحرير سوريا وتطبيق الحكم ذاته على كل البلاد وقد كان. 


رغم العداء التاريخي الذي أظهرته الحرب بين الجانبين، إلا أن الحاجة إلى إعادة بناء سوريا ومنع أي تدخل خارجي جديد فرضت ضرورة الوحدة. وبعد مفاوضات مطولة، تم التوصل إلى اتفاق الوحدة في 10 آذار/مارس 2025، ليتم دمج الشرق والغرب. وهنا يتّضح مفهوم “العقل التواصلي” عند الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، الذي يُشدد على أهمية النقاش العام الحرّ والمفتوح في صياغة التوافقات الاجتماعية. في عملية التوحيد الألماني، احتلَّ الحوار بين النخب السياسية والاقتصادية مساحةً كبيرة، لكن الأصوات المجتمعية والقطاعات الشعبية احتاجت وقتًا لتعبر عن هواجسها. انتشرت العديد من الوسائل الإعلامية الجديدة بعد التوحيد. لكن ظلّ هناك اختلافٌ في الوعي الجمعي: نظرة الغرب إلى الشرق بوصفه “متأخراً” اقتصادياً، ونظرة الشرق إلى الغرب بوصفه “مادّياً” وغير متعاطف مع الظروف الاجتماعية. 


إنَّ التحام المجتمعات يحتاج إلى فسحة أكبر للنقاش والحوار الحرّ، يعبّر فيها المواطنون عن آمالهم ومخاوفهم، وتُقدّم فيها الأطراف تصوّرات بديلة لمستقبل مشترك، بعيداً عن إملاءات القوى المسيطرة. استمرار الإرث القمعي لأجهزة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية (شتازي) شكَّل عقبةً أمام الوحدة النفسية والاجتماعية. يمكننا هنا أن نستحضر أفكار الفيلسوفة الألمانية حنّة آرندت حول “جذور الشمولية” وضرورة التصالح مع الماضي عبر المصارحة والمحاسبة. حيث تم فتح ملفات الاستخبارات أمام الرأي العام، وسمح القانون للمواطنين بالاطلاع على سجلاتهم. كانت هذه العملية محاولةً لبناء الثقة مجدداً بين الأفراد والدولة، وتكريس قيمة الشفافية. رغم كل محاولات إعادة تأهيل النظام السياسي في الشرق وبناء الوعي بأنَّ الأخطاء الفردية والجماعية لا تُمحى بجرة قلم، بل عبر عملية أخلاقية متدرجة من الاعتراف بالذنب إلى قبول المسؤولية الاجتماعية. ورغم مرور 35 عاماً على الوحدة، لا تزال هناك فجوة ثقافية وسياسية بين شرقها وغربها وهذا يعود الى تاريخ المنطقتين والجهات الحاكمة لهما، فعلى سبيل المثال، لا تزال نسبة كبيرة من سكان الشرق تصوت للأحزاب الشعبوية واليسارية بسبب الموروث الاشتراكي، بينما يميل الغرب إلى الأحزاب الليبرالية والمحافظة إلى يومنا هذا وعند سؤال كلا شعوب المنطقتين عن تأييدهم أو رفضهم لإرسال تعزيزات عسكرية لمساندة أوكرانيا في حربها ضد روسيا، كانت الموافقات تتوالى من الغرب بينما رفضها الشرق. 


تشهد المنطقة العربية-والسورية تحديداً-انقسامات سياسية ومناطقية تهدد الوحدة الوطنية. فإذا كانت تجربة الألمانيتين قد أظهرت صعوبة الاندماج حتى في مجتمعٍ أوروبيٍّ واحد اللغة والتاريخ، فإنَّ التحدي يزداد تعقيداً في حالة التعدد الإثني أو الطائفي أو الأيديولوجي، وفي سوريا من ينتظر عكس تلك النتائج في الاختلاف فهو واهم ولا تلمس أقدامه هذه الأرض على الرغم من الوحدة نظرياً ستشهد الانتخابات المستقبلية وجميع النشاطات السياسية فرقاً واضحاً في وجهات النظر حسب المنطقة وساكنيها ومن كان يدعمها ويحكمها طيلة سنوات الحرب وهذا الشيء أقل من طبيعي. في عام 1991، أطلقت الحكومة الألمانية برنامجاً استراتيجياً تحت عنوان “مشاريع الوحدة” (Verkehrsprojekte Deutsche Einheit)، شمل 17 مشروعاً ضخماً للبنية التحتية، منها 9 مشاريع تتعلق مباشرة بالسكك الحديدية. وقد خُصّص لهذه المشاريع أكثر من 41 مليار يورو بحلول عام 2020، في واحد من أكبر الاستثمارات في النقل داخل القارة الأوروبية. الاقتصاد الشرقي الذي كان يعاني من ضعف البنية التحتية والنفور الاستثماري بسبب سقوط الاتحاد السوفييتي وعدم قدرته على منافسة الاقتصاد الرأسمالي بالغرب، بدأ يتنفس الصعداء. إذ أشارت بيانات وزارة النقل الألمانية إلى أن المناطق الشرقية التي تم ربطها بشبكات السكك السريعة شهدت نمواً في الاستثمارات الصناعية بنسبة تفوق 25% خلال العقد الأول بعد الوحدة، مقارنةً بمناطق لم تصلها التحديثات في الفترة نفسها وتراجعت معدلات البطالة بشكل ملحوظ، كما قلل ذلك الهجرة الداخلية من الشرق للغرب. وما بين عامي 1995 و2015، ارتفع عدد الركاب على خطوط ICE وIC السريعة بين الشرق والغرب بنسبة 120%، في حين تضاعف حجم الشحن على السكك الحديدية في نفس المسارات، ما جعل من القطارات عاملاً رئيسياً في إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية الألمانية. من يُريد قياس منسوب الوحدة الألمانية يكفيه أن يصعد على متن قطارٍ ينطلق من درسدن ويصل إلى كولونيا، يمكن القول أن من خلال القضبان رُمّم ما لم تتمكن السياسة وحدها ترميمه. قبل الحرب، كانت السكك الحديدية السورية واحدة من أقدم الشبكات في الشرق الأوسط لاسيما سكة قطار الشرق أو طريق الألمان كما كان يطلق عليها، تربط عدّة مدن في الشمال السوري من تل كوجر إلى تربه سبيه وقامشلو، مروراً بالحسكة ومن ثم إلى حلب ومن هناك إلى مدينة قونيا في تركيا وصولاً إلى ألمانيا، وكانت من أهم طرق المواصلات ونقل البضائع منذ عام 1940 وحتى منتصف السبعينات.


كما فعلت ألمانيا يجب على سوريا أن تطلق مشروعاً لإعادة بناء وربط السكك الحديدية وإنشاء خطوط محلّيّة سريعة للبضائع بين مناطق الإنتاج والتصنيع والاستهلاك مبدئياً. الشرق السوري غني بالموارد (النفط، الغاز، الزراعة)، لكنه يفتقر إلى البنية الصناعية أما الغرب السوري فيملك البنية التحتية الصناعية والخبرات، لكنه يحتاج إلى موارد التشغيل وربط الطرفين بوسائل نقل فعّالة يعني ببساطة ولادة سوق وطنية سورية واحدة وفتح آفاق للاستثمار الخارجي. المستثمر لا يريد شعارات سياسية، إنما بكل بساطة أرضاً مستقرة وقانوناً واضحاً وسهولة في العمل والتنقّل. والتجربة الألمانية أظهرت أن حتى المناطق الشرقية الشبه منسية عندما خّدّمت، تدفقت إليها رؤوس الأموال وارتفعت فيها الاستثمارات المحلية والخارجية. يجب التفكير في توجيه أولى مشاريع إعادة الإعمار في سوريا نحو البنية التحتية للنقل وليس فقط البناء والإسكان، لأنه لا اقتصاد بلا استثمار، ولا استثمار بلا نقل. مجتمعياً ستكون السكك الحديدية أكثر من خطوط فولاذية، ستكون خيوط تُعيد ربط المجتمع السوري الممزّق الذي تكوّن في كل منطقة به رواية تكفّر وتجرّم المنطقة الأُخرى. 


آن الأوان أن يكتشف أبناء سوريا وطنهم بأنفسهم من جديد والمحاولة من أجله.. في ألمانيا منذ منتصف العقد الأول من الألفية، أظهرت الدراسات أن الأطفال ما بعد توحيد الألمانيتين الذين لم يعيشوا زمن الجدار، ولا اختبروا الانقسام، صاروا يكوّنون جيلاً جديداً يرى نفسه ألمانياً قبل أن يكون شرقياً “ أوستي” أو غربياً “ڤيستي” كما كان يطلق الناس على بعضهم قبل وبعد الوحدة مُباشرةً. ما ننتظره في سوريا اليوم ليس بالضرورة انقلابات فكرية مفاجأة ولكن فقط أن نحترم اختلافاتنا إلى أن يعالج الزمن ما نُكنّه اليوم لبعضنا. وعلى غرار فكرة الاعتراف لدى أكسل هونيث، يحتاج السوريون بمختلف أطيافهم إلى اعتراف متبادل بالمعاناة والأخطاء المتبادلة خلال سنوات الصراع. فالآلام المشتركة أعمقُ من أن تُحل بتجاهل الماضي، وكما يشير هابرماس، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة يجب أن يقوم على حوار شامل لا يقتصر على النخب. ذلك يعني مشاركة المجتمعات المحلية، والمنظمات المدنية، والشباب في صياغة مستقبل البلاد. من الضروري التفكير في آليات للعدالة الانتقالية بشكلٍ شفاف. فكما فُتحت ملفات “شتازي” للمراجعة العلنية، يمكن لسوريا أن تفتح سجلات الأجهزة الأمنية والقضايا الإنسانية ضمن إطار قانوني عادل، مع مراعاة خصوصيات المجتمع السوري. بالرغم من كل التحديات التي واجهتها ألمانيا بعد التوحيد، فإن الإنجاز يبقى ماثلًا: نجحت الدولة الألمانية في توحيد نظامها السياسي، وأطلقت مشاريع تنموية في شرق البلاد، واحتفظت في الوقت عينه بحرية التعبير وتداول السلطة. ولكن الوعي الفلسفي يُذكّرنا دائماً أنّ التوحيد الناجح لا يُختزَلُ في المؤشرات الاقتصادية فقط، بل في مدى قدرة المواطن على ممارسة حقوقه والاعتزاز بهويته ضمن مجتمع متكاتف يُقدِّر تنوُّع التجارب الإنسانية. 


على النطاق العربي والسوري تحديداً، قد يكون الاندماج الحقيقي عمليةً معقدة أطول من المتوقع، وقد يحمل في طياته إخفاقاتٍ وآمالاً، تماماً كما حصل مع الألمانيتين. إنَّ فلسفة الاعتراف والعدالة والحوار تضع أمامنا خريطة طريق للخروج من عباءة الماضي نحو مستقبلٍ يضمّد الجراح ويُرسي عقداً اجتماعياً جديداً، قوامه الحرية والكرامة الإنسانية. في النهاية، كما قال الفيلسوف الألماني هيغل: “التاريخ ليس سوى صراع مستمر بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون” واليوم، سوريا تقف بين الاثنين.

شارك

مقالات ذات صلة