سياسة
مصطفى السيد عيسى
الأحد، الثاني عشر من يناير عام 2025، في تمام الساعة الحادية عشرة والربع ظهرًا، كانت اللحظة التي عبرت فيها حدود سوريا لأول مرة في حياتي. سوريا، الاسم الذي لطالما كان جوابي الفطري حين أُسألُ في المنفى: “من أين أنت؟” فأقول دون تردد: “أنا من سوريا”. لكن الحقيقة أنني لم أكن أعرفها حقاً، فلم أتنفس هواءها، ولم أمشِ في شوارعها. كانت سوريا بالنسبة لي رواياتٍ تسرّبت إليّ من ذاكرة والديّ، قصصًا عن طفولة بسيطة بين بيوت إدلب العتيقة أو في حقول الزيتون. ولكن في اللحظة التي عبرت فيها الحدود، تحوّلت من حكاية إلى واقع، من صورة مُتخيَّلة إلى حقيقة ملموسة.
لم تكن زيارتي الأولى إلى سوريا مجرد رحلة عادية كالتي كنت أقوم بها إلى دول العالم المختلفة، بل كانت لقاءً فريداً بين المخزون العاطفي الذي كوّنته عنها، وبين الحقيقة التي كانت ماثلة أمامي. طوال سنوات حياتي في السويد، كنت أعيش ازدواجية غريبة، فأنا أعمل في بناء المدن وتخطيطها، أرسم معالمها ومعالم مستقبلها، لكنني كنت أعاني من عدم الارتباط بها. أشعرُ أنّها مدنٌ ليست لي، وشوارع لا تُشبهني، لكن إيماني بالمهمّة التي أوكلها الله إلينا في خلافة الأرض وإعمارها كان العزاء الذي أستلهم منه الطاقة التي تساعدني على الاستمرار. ظلّ هذا الشعور يرافقني لسنوات، حتى وجدت الجواب أخيراً حين دخلت إلى دمشق. عندها فقط أدركت معنى الوطن واكتملت مفاهيمه في وجداني. اكتشفت أن الوطن مكان حقيقي وليس مجرّد ذكرى في مخيّلتي أو حالة وجدانية فقط. مكان يفرض علينا بجماله وعراقته أن نكون جزءًا منه. يستحق أن يُبنى بأيدي أبنائه الذين ضحّوا من أجل رفعته وصبروا في سبيل حريّته.
في سوريا الصمود، قضيت أسبوعين إلا ثلاثة أيام متنقلًا بين دمشق وحمص وحماة وإدلب واللاذقية وطرطوس، لأرسم صورة جديدة تُكمل ما تكوّن في مخيلتي من صور. كنت أتنقل من شارع إلى آخر، ومن سوق إلى زقاق، أراقب الوجوه، وأستمع للناس، وأحاول أن أفهم وأستوعب كل ما يدور حولي. لم يكن الدمار مفاجئًا في ذاته، فقد رأيته مرارًا عبر الشاشات، ولكنه كان أكثر وقعًا حين وقفت أمامه. ما صدمني لم يكن الخراب بحد ذاته، بل هذا الجمال وهذه العراقة التي ظلت صامدةً رغم كل شيء. رأيت مُدنًا لم تفقد هويتها رغم الدمار، وأسواقًا لا تزال تضج بالحياة رغم آثار الحرب، وشعباً يحمل في عيونه معاني الصبر والاحتساب.
كم من الأحلام دُفنت تحت الركام؟ وكم من العائلات رحلت ولم تعد؟ كيف استطاعوا أن يحولوا مدناً تمتد جذورها في أعماق التاريخ إلى أماكن ممسوحة الملامح وخالية من الحياة؟ أسئلة كثيرة راودتني ولم أجد جواباً لها. لكن رغم كل شيء، لم يكن اليأس هو الشعور الذي سيطر عليّ. على العكس تماماً، كنت أرى الأمل في كل زاوية وفي كل مشهد تسقط عليه عيناي. رأيت مدناً تنتظر أن تُبنى من جديد، لا كما كانت سابقاً، بل كما يجب أن تكون. كانت عين المهندس داخلي ترى الدمار وتعيد إعماره في مخيّلتي لتكون المدن أكثر كفاءة وتنظيماً واستدامة. إعادة الإعمار ليست عملية هندسية وحسب، كما قد يتبادر للأذهان، بل هي مشروع وطني يعيد تشكيل العلاقة بين الناس ومدنهم. ليست إسمنتًا وحديدًا، بل تخطيطاً واستراتيجيات ورؤى، تأخذ سوريا إلى المستقبل، لا تعيدها إلى الوراء.
أحد أكثر المفاهيم المغلوطة حول إعادة الإعمار هو الاعتقاد بأنها تعني إعادة بناء ما تهدّم فقط. ولكنّ رفع الأجسام الخرسانية فوق بعضها والربط بينها بطرق معبّدة وتزيينها بأشجار وشجيرات جانبية ليس كافياً لتتعافى سوريا مما هي فيه. والحقيقة هي أن إعادة الإعمار ليست بناء المدن، بل بناء الحياة والحركة الاقتصادية فيها. في التخطيط الحضري، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهنا يكمن دور التخطيط الحضري بوصفة ضرورةً واجبة لا يجب أن نتخطّاها. فهي ليست رفاهية كما يعتقد البعض، بل هي الفرق الفعلي بين المدن القابلة للحياة والأخرى التي تجعلك تكره الحياة فيها. ليس كل ما سيُبنى في سوريا سيقع تحت خانة إعادة الإعمار وليس كل شارع سيُعبّد سيكون خطوة صحيحة نحو بنية تحتية قوية في البلاد. المدينة الناجحة هي تلك التي لا يشعر ساكنوها بطول المسافات أو تعقيد الوصول إلى احتياجاتهم فيها. هي المدينة التي تخدم ساكنيها وتجذب النّاس إليها من كل أنحاء العالم.
أثناء زيارتي، كنت أتساءل: كيف نريد للمدن السورية أن تكون؟ وما هي المميزات التنافسية التي ستجعلها قبلة للزائرين؟ وما هي العوائق التي ستقف في وجه رؤيتنا الطموحة لسوريا المستقبل؟ أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها ونجيب عنها اليوم قبل غدٍ.
ألم تمرّ يومًا بمدينة تشعرك بأنها قد صُمّمت بعناية؟ حيث تجد كل ما تحتاجه بسهولة؟ المرافق العامة متاحة، ومسارات السيارات، والمشاة واضحة ومريحة؟ وفي المقابل، ألم تزُر أماكن أخرى شعرت فيها وكأن المدينة تُعيق حياتك وتعمل ضدك؟ هذا هو الفرق بين التخطيط السليم وبين العشوائية. تخيل دمشق، والتي يُعاني سكّانها اليوم زحاماً خانقاً وقد أعيد تخطيطها بحيث تتنوع وسائل النّقل فيها وتقترب الخدمات من الناس حتى يصل أهلها إلى أشغالهم والأطفال إلى مدارسهم بسهولة ويُسر. تخيل المناطق الأثرية والمدن الساحلية وقد أصبحت وجهات سياحية عالمية ومتطورة، تستقطب الزوار من كل مكان، بشواطئها النظيفة ومرافقها المتكاملة. تخيل حلب، وقد عادت أسواقها القديمة إلى الحياة وتطوّرت الصناعة والتجارة فيها فباتت محوراً اقتصادياً أساسياً يحافظ على أصالته وينفتح على المستقبل وإمكانياته. تخيّل المدن المنسية كإدلب وغيرها وقد تم استغلال المميزات التنافسية فيها فصارت تُنافس أخواتها من المدن السورية في الزراعة والصناعة والتطور العلمي. كل هذا ممكن بالتخطيط الحضري والعمراني.
ما رأيته في زيارتي هو أن سوريا تتميز بأنها ليست سوريا واحدة، بل سوريات متعددة، لكل مدينة شخصيتها، ولكل منطقة طابعها، ولكل بقعة إمكانياتها. لهذا يجب على عملية إعادة الإعمار أن تكون خطة مرنةً تتكيف مع هوية كل منطقة، لا أن تكون استنساخاً لنماذج جاهزة لا تناسب المكان ولا ناسه. إن المدن الحديثة هي ليست تلك التي تتميز بناطحات سحاب زجاجية أو مراكز تجارية فارهة، بل تلك الأماكن التي تُسهّل حياة الناس، وتكون محرّكاً للاقتصاد، وتتّسم بالتوازن البيئي المستدام. نريد من عملية إعادة إعمار سوريا ألا تقتصر على تعويض ما فُقد، بل أن تكون انطلاقةً طموحةً نحو نموذج جديد…يُحاكي أصالة الماضي، ويبني مدن المستقبل.
المدن هي محرّكات الاقتصاد، ما المقصود بهذا؟ في المقال القادم، سأتحدث عن العلاقة بين التخطيط الحضري والاقتصاد، وكيف يمكن للمدن أن تتحول إلى محركات اقتصادية للدول، وكيف أن عملية إعادة الإعمار في سوريا هي فرصة تاريخية لبناء نموذج حضري جديد يعكس تطلعات السوريين وأحلامهم.