سياسة
تنظر اليوم كثير من دول الاتحاد الأوروبي إلى سقوط النظام كانفراجة سياسية لملف اللاجئين السوريين في أوروبا، هذا الملف الذي كان يدفع كثير من كبار الدول الأوروبية إلى إعادة فتح خطوط التفاوض مع بشار الأسد في النصف الثاني من العام 2024. ألمانيا وفرنسا من أوائل الدول التي زارت دمشق بعد هروب بشار الأسد، وأجرت لقاءات مع الرئيس السوري أحمد الشرع. الهدف واضح: اللاجئون السوريون، ومصير النفوذ الإيراني والروسي في سوريا بعد الأسد.
بحسب المعلومات التي حصلت عليها سطور من مصادر في دمشق، فإن النقاشات التي تدور مع الدول الأوروبية تتمحور حول عدّة قضايا أمنية واجتماعية، دون أن يغيب عن الأجندة ملف اللاجئين السوريين، وتهيئة الظروف الملائمة لعودة مئات الآلاف منهم في المستقبل القريب، وبحسب المعلومات فإن هناك شبه توافق في وجهات النظر بين الحكومة السورية والدول الأوروبية في الوقت الراهن حول أن البنية الاقتصادية والتحتية لا تسمح بعودة كبيرة للسوريين في الوقت القريب، ولذلك لا بد من تقديم دعم كبير لسوريا للبدء بالتعافي الاقتصادي والعمراني لتسهيل عودة السوريين.
تفاؤل أوروبي.. مع وقف التنفيذ
سمحت دول من الاتحاد الأوروبي للسوريين الحاصلين على جنسيتها أو الحاصلين على الإقامة الدائمة فيها، بزيارة سوريا، في الوقت الذي تدرس فيه خطوة شبيهة بالإجراء الذي قامت به تركيا، وهي السماح للاجئين السوريين بزيارات متعددة لبلادهم دون أن يؤثر ذلك على حالة الإقامة القانونية التي حصلوا عليها، وذلك في خطوة تهدف لإعطاء السوريين فرصة معاينة الوضع في سوريا قبل العودة النهائية وإلغاء حق اللجوء الذي حصلوا عليه.
وإلى حين البتّ في إمكانية تنفيذ هكذا خطوة، ما زالت دول في الاتحاد الأوروبي تنصح السوريين بعدم العودة في الوقت الراهن، وترفض طلباتهم بالقول إن الوضع غير مستقرّ بعد. وعلمت سطور أن عشرات العائلات في فرنسا وحدها تقدّمت بطلب عودة طوعية إلى سوريا خلال الفترة الممتدة بين شهر شباط ومنتصف شهر آذار، فضلًا عن آلاف الطلبات التي تم تقديمها للحصول على إذن زيارة إلى سوريا من قبل سوريين حاصلين على اللجوء، وبحسب المعلومات فإن الحكومة الفرنسية رفضت الطلبات جميعها تقريبًا -عدا بعض الطلبات المتصلة بالعمل الصحفي أو المدني- وأخبرت السوريين أن يتريّثوا قليلًا، لأن الوضع الأمني والاقتصادي في سوريا لم يستقر.
ويقول أحد الذين قدموا طلب عودة طوعية في حديثه مع سطور، إن ممثلي الحكومة الفرنسية أخبروه أن الوضع في سوريا ليس مستقرًا بعد، وأن الحكومة الفرنسية تقوم بدراسة الواقع السوري في الوقت الحالي، ويمكنه إعادة تقديم الطلب مرّة أخرى بعد ستة أشهر، حيث تكون الأمور أصبحت أكثر وضوحًا.
ألمانيا كانت أكثر وضوحًا، وهي التي فيما يبدو أنها تقود دفة السفينة الأوروبية حيال الانفتاح على الحكومة السورية المؤقتة، وجهود دعم الاستقرار لتسهيل عودة اللاجئين السوريين. وقالت وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك في مقابلة تلفزيونية قبل أيام إنه “لا أحد سيعود طواعية إذا لم تكن زوجته وابنته في أمان، هذه هي السياسة الخارجية النسوية العادلة”، مضيفة أن “هذا الأمر يجب أن يُناقش من هذا المنظور أيضاً. أريد أن أقول أيضاً إن جزءاً كبيراً من السوريين لم يتكيفوا فقط بشكل جيد في ألمانيا، بل أصبحوا جيراناً جيدين وموظفين أكفاء يعملون في المستشفيات. أعتقد أن بعض أولئك الذين يتحدثون عن الإعادة بعيدون عن الواقع، بالتأكيد، يريدون المشاركة في إعادة إعمار سوريا، لكن لا يمكن لأي شخص العودة حتى التيقن من الوضع السياسي. هذا لا يمكن حله بموجة من العودة.”
العودة الجماعية وتأثيرها على البنية التحتية المتهالكة
يشكل تهالك البنية التحتية والعمرانية في سوريا أحد أكبر التحديات التي تواجه جهود إعادة الاستقرار في سوريا وعودة اللاجئين السوريين، مع وجود مدن وقرى مدّمرة بشكل شبه كامل، ما يعني أن أي عودة جماعية للسوريين في الوقت الحالي ستشكل ضغطًا كبيرًا على البنية العمرانية والتحتية المنهارة، ويحوّل المدن والقرى الحالية إلى مجمّعات سكنية مكتظة جدًا بالسكان، فضلًا عن النقص الحاد الذي سيحصل في توفّر المنازل والشقق لاستيعاب السوريين العائدين، وبطبيعة الحال سينعكس هذا بشكل مباشر على أسعار آجار البيوت بارتفاع دراماتيكي، وهو أمر بات يلمسه أهالي حلب ودمشق في الوقت الراهن.
في دمشق، المنزل الذي كان يتم تأجيره بما يعادل مئة دولار أميركي شهريًا، بات اليوم سعره الشهري يتجاوز أربعمئة دولار، تطور بات يؤرق كثيرًا من السوريين المقيمين في العاصمة والذين لا يتجاوز راتبهم الشهري مليون ونصف المليون ليرة سورية (أي ما يعادل حوالي مئة وأربعين دولاراً)، حيث يخاف هؤلاء من أن يطالب أصحاب البيوت برفع الآجار. كما شهدت المنازل في حلب أيضًا ارتفاعًا ملحوظًا، وسط شحّ في توفر المنازل في مقابل الطلب العالي عقب عودة بعض أهالي حلب من الداخل السوري ومن خارج سوريا.
تقديرات الأمم المتحدة تقول إن سوريا تحتاج إلى نحو أربعمئة مليار دولار للتعافي من تبعات الدمار الذي خلفه العقد الماضي، وبسبب العقوبات المفروضة على سوريا دوليًا فإن أفق تهيئة الظروف للتعافي السوري وعودة اللاجئين ما زالت ضبابية في الوقت الراهن. في مواجهة هذا الاستعصاء الحالي تُبذل جهود أوربية وعربية وتركية لإقناع الولايات المتحدة برفع العقوبات التي تؤثر على جهود إعادة الإعمار والاستقرار في سوريا، وفي الوقت نفسه تُعطى مؤشرات للحكومة الحالية في دمشق أن هذه الجهود تحتاج إلى خطوات ملموسة من قبل الحكومة السورية الجديدة لطمأنة المجتمع الدولي أن سوريا تسير في طريق دولة لا تُقصي المكونات السورية من المشاركة في قيادة البلاد والتأثير في مستقبلها واستقرارها، وأن سوريا لن تكون مصدر قلق للدول الإقليمية والغربية. لذلك فإن شكل الحكومة المزمع تشكيلها ومدى شموليتها للنسيج السوري المتنوع هو حجر أساس في خطوات التأثير لرفع العقوبات عن سوريا.
قانون “قيصر” الذي سنته الإدارة الأمريكية في مواجهة الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين يشكّل عائقًا رئيسيًا أمام دخول الاستثمارات الدولية؛ فالدول والشركات الكبرى تخشى من تعرضها للعقوبات الأمريكية في حال بدأت دعم إعادة الإعمار في سوريا. كما أن الأموال السورية المجمّدة خارج سوريا بفعل العقوبات الأمريكية والأوروبية (والتي تفوق ستين مليار دولار بحسب تقديرات غير رسمية) يمكن لها أن تلعب دورًا فعّالًا في عملية إعادة الإعمار في حال الإفراج عنها بعد رفع العقوبات.
سقوط الأسد حجر أساس.. ولكن لا يكفي
لا شكّ أن سقوط نظام الأسد وبنيته الأمنية وآلته العسكرية التي أرهبت السوريين، هي حجر أساس في مسار عودة اللاجئين السوريين، لكن لا ينبغي النظر إلى هذا الحدث التاريخي السوري على أنه يكفي لعودة السوريين، فالبنية التحتية المدمّرة، وشحّ الخدمات الرئيسية، والعقوبات الاقتصادية، وعدم تجمّع الثروات الباطنية السورية تحت إدارة موّحدة، كلها عوامل تُعيق تعبيد طريق عودة السوريين إلى بلادهم بشكل آمن وطوعي.
بذل المجمع الدولي جهودًا أكبر لرفع العقوبات والتفاعل مع الحكومة السورية المؤقتة سيكون له تأثير كبير في تهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والتعافي السوري، وأي تأخير في اتخاذ خطوات حقيقية سيؤدي إلى انهيار أكبر في البنية السورية الاقتصادية والاجتماعية المتهالكة أساسًا، وسيُعطي فرصة لدول مثل روسيا وإيران لاستغلال حالة العزلة الدولية الاقتصادية التي تعاني منها سوريا، والبدء بخطوات جديدة لإعادة تموضع نفوذها في سوريا، ولا يخفى على دول الاتحاد الأوربي والغرب والدول العربية أن استراتيجية روسيا وإيران تعتمد على خلق الفوضى في تحقيق الأهداف السياسة والعسكرية.
الحكومة السورية المؤقتة وخطواتها السياسية والداخلية الحقيقية والملموسة في إعادة تقوية النسيج السوري وتشكيل حكومة تنوعية أساسها التكنوقراط هو خطوة جوهرية أيضًا في تأسيس عقد سوري جديد يقوّي الثقة السورية-السورية في مستقبل أفضل ينتظرهم بعد سنوات من المعاناة والتشرد واللجوء الذي سببّته سياسة نظام الأسد الدموية القائمة على مبدأ الإبادة وإدارة التوحش والفساد. كما أن تحقيق تقدّم حقيقي في جهود إعادة توحيد الجغرافيا السورية سيُعطي سوريا دفعة داخلية في سياق الاعتماد على الثروات الباطنية في طريق إعادة الإعمار وإرساء الاستقرار.