سياسة
التاريخ: 27 رمضان 2011 – أول رمضان في الثورة
المكان: فرع المداهمة – سرية 215
بدأت الليلة ككل الليالي، ننتظر فيها خبراً عن الإفراج قبل العيد. كلٌّ منا غارق في صلاته أو ذكره، عسى أن تصادف هذه الليلة ليلة القدر، فيجتمع شرف الزمان مع شرف الاعتقال نصرةً للحق. وكما هو الحال في الأفرع الأمنية، كان أي شكل من أشكال العبادة أو أثر للوضوء محظوراً تماماً، ومن تظهر عليه إحدى تلك العلامات، يتعرض لأشد أنواع العذاب.
الزنازين كانت مكتظة، أربعون أو خمسون شخصاً في مساحة لا تتجاوز تسعة أمتار مربعة. الجو حار جداً، والأنفاس تكاد تختنق من حرّ الصيف في شهر آب. في الزنزانة المجاورة، تجرّأ بعض الشباب وبدؤوا بصلاة التهجد جماعة، فهذه ليلة القدر بإذن الله. ظننا جميعاً أن عذابهم سيكون شديداً، لكن الله ألقى الرحمة في قلب السجان تلك الليلة. كان من الطائفة الدرزية، وتبدو عليه علامات التعاطف معنا منذ دخولنا، على عكس غيره من السجانين. وبدلاً من تعذيبهم، فتح لهم باب الزنزانة، ووضع أمامهم مروحة تساعدهم على الخشوع!
حدثتُ نفسي:
“هذه ليلة القدر التي لطالما انتظرتها! لطالما اجتمعت مع أصدقائي نتحدث أن هذه الليلة ستكون مفصلية في تاريخ الثورة، ولكن أنا هنا في المعتقل، هل سيخرجون ام لا!!؟
نعم سيخرجون من مسجد عبد الكريم الرفاعي، حيث ينطلق صوت الدعاء والتكبير، وسيخرج منه الليلة مظاهرة كبيرة بإذن الله.”
كان المسجد بمثابة شرارة الثورة في كفرسوسة، رغم قربه من مبنى أمن الدولة، الذي لا يبعد أكثر من خمسمائة متر غرباً، إضافة إلى المربع الأمني الذي يبعد شرقاً مسافة كيلومتر واحد تقريباً، ومحاطٌ بثكناتٍ عسكريةٍ ومستعمراتٍ أمنية.
الزلزال يبدأ…
عند الساعة الثالثة فجراً، تعالت أصوات التكبير، واخترقت سماء دمشق حتى وصلت إلى مسامعنا داخل الزنازين! كان شعوراً لا يوصف أن تسمع التكبيرات ونداءات الحرية داخل أحد أبشع المعتقلات التي عرفتها البشرية. شعرنا أن الحرية تقترب، وأن النصر لاح، وأننا سنخرج مرفوعي الرأس. ولكن…
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأت أصوات الصراخ والضرب والشتائم تمزق سكون الليل. أصوات الرعب كانت تتسلل إلينا من كل زاوية في الفرع. بدأت قوافل المعتقلين تصل تباعاً، لكننا لم نعرف ما حدث يقيناً حتى جاء وقت الخروج إلى الحمامات (مرتين أو ثلاثاً في اليوم فقط). عندها، رأينا الممرات ممتلئة بالمعتقلين، بعضهم ملقى على الأرض والدماء تغطيهم، وآخرون بالكاد يستطيعون الوقوف.
فيما بعد، عرفنا ما حدث…
“مسجد الرفاعي تحت الحصار!”
أثناء صلاة التهجد، كان المصلون في حالةٍ من الخشوع والتضرع، خصوصاً عند الدعاء للمعتقلين بالفرج القريب. كان صوت التأمين يدوّي في أرجاء المسجد، حتى أرعب عناصر الأمن والشبيحة المنتشرين حوله.
ما إن انتهت الصلاة حتى تعالت التكبيرات، وبدأت جحافل الأمن والشبيحة باقتحام المسجد. هجموا على المتظاهرين بوحشية، ضرباً واعتقالاً. حاول المصلون الاحتماء داخل المسجد، وأغلقوا أبوابه، لكن ذلك لم يكن ليشفع لهم. فرض الشبيحة طوقاً أمنياً حول المسجد، وبدؤوا باستخدام القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي، ما أدى إلى استشهاد شاب داخل المسجد وإصابة العشرات.
لم يكتفِ المهاجمون بذلك، بل اقتحموا الطابق العلوي للمسجد (السدة) وبدأوا يرشقون المصلين في الطابق السفلي بكل ما وقع تحت أيديهم: المصاحف، خزانات المياه، الأحذية، كل شيء..
بعد ساعات من الرعب، انتهت الليلة القاسية بتدخل الأهالي ومحاولات الوساطة، ما أسفر عن خروج من تبقى من المصلين. لكن حتى بعد مغادرتهم، استمر الشبيحة في ملاحقتهم، حيث اعتُدي على الشيخ أسامة الرفاعي بالضرب المبرح حتى نُقل إلى المستشفى، كما اعتُقل نجله.
كانت ليلةً سوداء، عاشها من كان في المسجد، ومن كان خارجه، ومن كان في المعتقل. منذ ذلك اليوم، سُمّيت بـ”زلزال دمشق”.
كتبت اليوم، 27 رمضان، أول ليلة قدر بعد التحرير وسقوط نظام الطاغية.
أربعة عشر عاماً تعمّد فيها نظام البطش تغيير اسم المسجد، ومحاولة السيطرة عليه، لكن صوت الحق لا يموت.