سياسة

العراق وسوريا: محطات تاريخية وملوك تائهون

مارس 28, 2025

العراق وسوريا: محطات تاريخية وملوك تائهون

قبلت نخب العراق ووجهاءه وزعماء عشائره بفيصل بن الحسين ملكاً على البلاد في العام 1920 بعد خروجه من سوريا متحسراً على مملكته السورية الوليدة والتي ماتت سريعاً جراء ضغط الفرنسيين ونفورهم منه لقربه من البريطانيين، وعدم تقبل جزء كبير من النخب السورية لمحاولاته التوفيقية، بين وجهة نظر الحلفاء الأوربيين المنتصرين (فرنسا وبريطانيا) بعد الحرب العالمية الأولى، ووجهة نظر الأعيان وأبناء الأعيان في المدن السورية الكبيرة، الذين خلفتهم المرحلة العثمانية، ممن كانوا يطمحون لدولة عربية مستقلة، وفيما تململ السوريون من وجود العراقيين الذين قدموا مع فيصل إلى دمشق بعد و أثناء الثورة العربية 1918، وإمساكهم بالوظائف حول الملك الشاب، والذي انتهى بهم الحال لاحقاً إلى اللحاق بفيصل لمساعدته في تأسيس حكومة موالية له في العراق. قبل القوميون العرب العراقيون أن يؤسس حزب البعث العراقي ثلاثة طلاب سوريون كانوا يدرسون في العراق، وكأن البلد الذي احتضن لاحقاً نظاماً بعثياً عنيداً وعتيداً وشديد التمترس خلف فكرة القومية العربية كان قاصراً على تأسيس بعثه بنفسه دون مساعدة سورية.


كان البلدان الجاران يتبادلان الأدوار المتضادة والجهات المتعاكسة لتوجهات كل منهما، تقدمت قوات الشريف حسين وقوات الحلفاء نحو دمشق وسط ترحيب شعبي واحتفاء بها، بينما كان العراقيون يقاتلون البريطانيين إلى جانب الدولة العثمانية بإخلاص، حتى إن المراجع الشيعية أصدرت فتوى للجهاد إلى جانب الدولة العثمانية السنية وشاركت بعض المرجعيات في المعارك ضد البريطانيين بشكل شخصي بغرض تحفيز العشائر العراقية على الجهاد، لم يرق للزعماء العراقيين أن يتحالف الشريف حسين مع البريطانيين أثناء الثورة ولكنهم سارعوا لاستقبال فيصل وتتويجه ملكاً عندما فشل في مهمته في سوريا. 


رفض السوريون مشاريع الوحدة الخجولة المعروضة من قبل العراق، واتجه سياسيو سوريا وعسكريوها على السواء للوحدة مع مصر 1958، قيل إن خشية السوريين من التنوع الطائفي العراقي والملكية الهاشمية والرغبة بالاتجاه نحو البحر المتوسط أكثر من التوجه نحو الشرق حملا أصحاب القرار على الوحدة مع مصر جمال عبد الناصر، قاطعة بذلك الطريق على الحلم العراقي الهاشمي بالوصول إلى البحر المتوسط، وكذلك لم يكترثوا إزاء رغبة العهد الجمهوري في بغداد بالوحدة مع الوحدة الأولى المصرية-السورية بعد انقلاب 1958 في العراق.


تبنى البعث السوري خطاً يسارياً متشدداً بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، بينما تبنى البعث العراقي خطاً قومياً عربياً مؤيداً لقيادة ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث السوري، والذي تضاءل دوره مع الوقت في سوريا مما دفعه للهروب منها خوفاً من تلاميذه من الضباط البعثيين أعضاء اللجنة العسكرية، والتي نكبت القيادة المدنية للحزب وأنهتها في سوريا، ليس غريباً أن يهرب للعراق حيث التف حوله الشبان البعثيون كما يلتفون حول ملك عربي تائه، وفي مقدمة هؤلاء كان صدام حسين. 


هيمن أعضاء اللجنة العسكرية في سوريا على البعث والحزب والدولة، فيما بدا أنه استيلاء للضباط على إرث الحزب وتاريخه، فيما تنامت روح العداء للعسكر في الجناح العراقي للحزب ووجهت منظمة “حنين” شبه العسكرية التابعة للجناح المدني ضربات قاصمة للعسكر العراقيين البعثيين على شكل انقلابات واغتيالات ومؤامرات أوصلت الشاب صدام حسين لمنصب (النائب) وهو الذي لم يدخل الجيش ولم يتلق أي تعليم عسكري، فيما أوصل المسار السوري حافظ الأسد الضابط العسكري إلى السلطة المطلقة في سوريا.


 عندما حارب نظام صدام إيران الخمينية كانت سوريا خارج التحالف العربي الداعم للعراق، بل ذهب نظام الأسد الأب إلى أبعد من ذلك، حيث دعمت النظام الإيراني الوليد في مواجهة عراق صدام. محاولات الحوار بين النظاميين كانت عبثية ودون فائدة، رغم أن هذه المحاولات لم تنقطع كلياً بعد القطيعة، كراهية بين الرجلين قطعت العلاقة بين البلدين وجمعت في شخصيهما كل تناقضات المصالح والأدوار بين البلدين، بدا الأمر وكأنه صراع طائفي بين طغمتين ريفيتين حاكمتين في البلدين تارة، وصراع لاقتسام المنطقة تارة أخرى. أطلقت يد النظام السوري في لبنان وخاض قبلها حرباً تأسيسية سريعة مع إسرائيل أنتجت وضعاً سياسياً مريحاً له، كما خاض النظام الشقيق حرباً مشابهة في الدواعي والأسباب طويلة وشاقة ومكلفة مع إيران على ما سماها “البوابة الشرقية للأمة العربية”، وبعدها عومل دولياً كنظام مارق لمحاولته للتسلط على الكويت، البلد العربي الصغير المجاور له والذي بدا كلقمة سائغة للبلد العربي الشاسع والغني ذي الجيش الهائل، لم يفرح النظام البعثي في سوريا بسقوط النظام الشقيق عام 2003، حيث بدا أنه الهدف التالي على قائمة أهداف إدارة جورج بوش حيث عارض أي تغيير في العراق وحاول وضع العصي في عجلاته.


بعد سقوط النظام البعثي الأخير في كانون الأول 2024 وتلاشي فقاعته بسرعة مفاجأة بعد ثورة عليه وصراع معه استمر لأربعة عشر عاماً، كان العراق أول الدول، التي توجه لها أحمد الشرع بالتطمينات، فالقائد السوري الجديد له ميزة لم تكن لأي زعيم سوري سابق وهي أنه بدأ نشاطه الجهادي من العراق وللمرة الأولى نرى سورياً له تاريخ وأساس عراقيين، وبيعة سابقة في تنظيم الدولة الإسلامية العراقي ولو أنها أصبحت في حكم اللاغية، بعد تملص الجولاني-الشرع منها وكأنها عبء جاثم على صدره، ليصبح بعدها مطلوباً لتنظيم الدولة الإسلامية نفسه، التنظيم الذي اتهمه مراراً بالخداع والمراوغة ثم شن حرباً ضروساً دفعت الرئيس السوري الحالي إلى اللجوء لقاعدة الظواهري في أفغانستان بحثاً عن شرعية ببيعة شكلية للتنظيم الغائب الحاضر، أمام تغول التنظيم العراقي الذي يخفي تمسكه بسوريا، ولا رغبته بالسيطرة عليها، مستخدماً القوة الوحشية في مواجهة كل من ينافسه عليها من ربائب الأمس. وفيما تناقصت حظوظ الرفاق العراقيين القدامى في البقاء مع تراجع التنظيم عسكرياً أمام التحالف الدولي والمحلي في العراق وسوريا على السواء، تنفس الجناح السوري المنشق الصعداء، وبدا أنه يرتب وضعه بهدوء حسب عقارب الزمن الشامي، لا وفق الحماس العراقي، توافقات ولين مع الخارج، ووعود كثيرة على المستوى الداخلي، وللمرة الأولى نرى شخصية إشكالية عراقياً ومطلوبة أمنياً من سلطاته بمذكرة توقيف، يتسنم قمة السلطة في سوريا.


 بتنا سياسياً أمام عراق رسمي وعراق غير رسمي الأول يتمثل بحكومة محتارة وحائرة في ظل تقلبات سياسية كبيرة في المنطقة وضغوط دولية وإقليمية، وثاني يتمثل في مليشيات وأحزاب تدور في فلك النظام الإيراني، في حين أصبحنا في أمام سوريا الأمر الواقع، والتي تتمثل في حكومة من لون واحد يثير حفيظة العراق الرسمي ويكثف حالة التوتر الطائفي عند العراق غير الرسمي، وفي زحمة الأدوار السياسية والجيوسياسية التي تناوبت عليها الأنظمة الحاكمة في البلدين الجارين منذ الحرب العالمية الأولى، ينحدر المستوى السياسي في التموضع الجديد للبلدين مع نهاية السنة المنصرمة ليكون صراعاً طائفياً بحتاً، بين بلدين تجمعهما علاقات تاريخية عميقة أكثر مما نعتقد، ومتقلبة أكثر من أن نستطيع أن نبسطه بصراع طائفي، إنه صراع سياسي فرضه موقع البلدين والتركيبة الاجتماعية المعقدة فيهما.


 يتشارك البلدان مشكلة عرقية تتمثل بالأكراد ووضعهما في البلدين، ويتشاركان في عدم الاستقرار وانتشار الحالة الميليشاوية والفصائلية مع وجود طفيف وموارب للدولة، ويتشاركان ذات الحنين الإمبراطوري في زمن كانا فيه تباعاً أموياً ثم عباسياً قلب العالم العربي الإسلامي في أقصى فتراته ذهبية وازدهاراً، أما حاضراً فهما بلدان يعانيان داخلياً ويكافحان خارجياً لكي لا يكونا على الهوامش، وخلال تلك المعاناة يبدو الغرق في التاريخ وأحداثه والحسابات القديمة ودفاترها سلوكاً مغرياً للهروب من قسوة الواقع.

شارك

مقالات ذات صلة